في المشهد الشعري المصري المعاصر، يظهر حضور الجسد الأنثوي بوصفه ساحةً تتقاطع فيها الأسئلة الوجودية والثقافية والجمالية، يتجاوز الجسد في قصيدة المرأة مجرّد استعارة للغواية أو الحنين، كما كان في التراث الشعري العربي، ليطل علينا في صورة ذاكرة حيّة تستعيد عبرها الشاعرات تجارب الألم والولادة والغياب والتحول من خلال القصيدة، تُعيد المرأة المصرية كتابة جسدها المقموع اجتماعيًا والمراقَب أخلاقيًا، لتمنحه لغته الخاصة وقدرته على الشهادة.
غير أن هذا البوح الشعري لا يخلو من المخاطر؛ فثمة خطوط حمراء لا تزال تحاصر القلم الأنثوي، تُرسم باسم التقاليد أو الدين أو الحياء، تحدثنا الشاعرة إيمان ماجد عن الجسد الأنثوي في قصيدة المرأة، والخطوط الحمراء التي تقوض الكتابة في التالي:
قالت الشاعرة إيمان ماجد: وجع الجسد والذاكرة في قصيدة المرأة ليس ترفًا تعبيريًا، بل فعل استعادة لحقٍ سُلب طويلًا؛ فالمرأة لم تُمنع يومًا من الألم، بل مُنعت فقط من تسميته.. لكن مع ذلك — نعم، هناك خطوط حمراء. وهي ليست خطوط المجتمع وحده، بل خطوط داخلية أعمق: حياء الروح، كرامة التجربة، وشرف الجرح حين يتحوّل إلى كتابة.
وأشارت ماجد، إلى أن المرأة حين تكتب عن جسدها لا تكتب عنه كجسدٍ معروض، بل كذاكرةٍ مُقاوِمة: جسدٌ عاش الحب، والعنف، والمرض، والولادة، والفقد ….جسدٌ من لحمٍ وروح، لا من فتنةٍ أو فضيحة.
وترى ماجد، أن النص الحقيقي ليس متمرّدًا على الأخلاق، بل متمرّدًا على الصمت الذي يبتلع الذاكرة ويعيد إنتاج القهر. ولفتت إلى أن وهناك نماذج شعرية كثيرة تجسد هذا المنهج.. وتبقى الخنساء مثالا على التعبير عن وجع الجسد "الفقد" بكرامة شعرية حين حولت ألم فقدان أخويها إلى شعر خالد، وذاكرة مضيئة.. كذلك الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، والتي تعتبر من أجرأ الشاعرات في تجربة المرأة الجسدية والعاطفية في تناولها لذاكرة الجسد كذاكرة للحب والفقدان والمقاومة دون إسفاف أو ابتذال، والشاعرة الكويتية سعاد الصباح والتي تؤكد نصوصها أن المرأة تحب وتغضب كما الرجل تماما، ولكنها تعبر عن ذلك بلغة تحترم شرف الجرح.. وغيرهن كثيرات.
وأكدت ماجد، أن لا أخشى الاقتراب من آلام الجسد، لكنني أخشى ابتذالها، أو تحويلها إلى استهلاك عاطفي.. فالكتابة بالنسبة لي ليست انكشافًا للإيذاء، بل اعتناقٌ للشفاء، ولذلك أكتب ما يليق بجروحي، لا ما يعريها عبثًا. فبعض الوجع يُقال، وبعضه يُحمَل كسرٍّ نبيل يعيش في القصيدة دون أن يُسمّى.
وألمحت ماجد، إلى أم فالشاعرة العربية تواجه رقابة ثقافية مزدوجة: الخارجية من المجتمع الذكوري، والداخلية من ضميرها الأخلاقي، وهذا يخلق توترًا إبداعيًا بين الأصالة والحداثة، بين الصدق والحياء.
وختمت ماجد حديثها: إذا كانت الذاكرة جرحًا، فالكتابة هي الطريقة الأسمى لحمله دون أن نعرّيه للفرجة. فالجسد في شعر المرأة ليس هامشًا يُهمَل، بل نصًّا يحيا ويتنفّس ويشهد.
إيمان ما لا يوقظ نار الشارع
قالوا:
لا تُظهري سوى ما يسمح به الوقت،
وما يُجيزه السلطان،
وما لا يوقظُ نارَ الشارع..
كان جسدي في طفولته
صفحةً من ذكرٍ لم يُنزَل،
مُنعتُ من لمسه
إلا على طهارة..
ثم قيل لي:
"اصمتي..كي لا تكبري فجأة".
ففهمتُ مبكرًا
أنني مسوّدةُ قانونٍ لم يُستفتَ فيه أحد.
جسدي:
تلك الأرض التي تغيّر اسمها
كلما تغيّر الغازي.
لم تكن الأرض لي، قالوا:
هي ملك الأب،
ثم الأخ،
ثم الزوج،
ثم القبر.
كنتُ أدوّن على جلدي بالأظافر:
"أنا هنا"
لكنّ الجرح يشفى،
والوصايا لا تُنسى.
أرادوا لجسدي أن يكون كهفًا مغلقًا،
ممرّاته في حلق الواعظ،
وبابه ينفتح على التوبة..
لكنّي كلما اختليتُ بي،
أرقصتُه على وترِ الريح،
أطلعته على نفسه كجسد،
لا كبيانٍ ديني
يتلوه الخطباء في المنابر..
كنتُ كلّما شعرتُ به،
تنهّد داخلي شيخٌ كبير،
يُحدّثني عن الشرف،
وضابطٌ يلوّح:
احذري.
ويرفع أعلام الوطن..
يهتفُ صوتٌ من بعيد:
لا تنطقي.
فكنتُ أصرخ في سرّي:
لا العارُ في صوت ضحكتي،
ولا الجنةُ معلّقةٌ في سكاتي..
جسدي كان نشيدًا مقطوعًا،
كتبوا مقدمته،
ومنعوني من اختيار الصيغة.
لكنّي الآن
أكتبه من جديد.
أنفض عنه الغبار،
وأتركه واقفًا كما هو،
منتصبًا كحقيقةٍ بلا هوامش..
جسدي ليس وصية
جسدي:
جملتي الاسمية الأولى.













0 تعليق