في حدث يوصف بأنه تحول تاريخي في قلب أمريكا، فاز زهران ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك، ليصبح أول مسلم يتولى هذا المنصب في أكبر مدينة أمريكية وأكثرها تنوعاً.
لكن اللافت في فوزه ليس فقط خلفيته السياسية، بل الطريقة غير المألوفة التي حوّل بها الطعام إلى أداة للتواصل والتغيير الاجتماعي، وبنى من خلالها حملته الانتخابية التي استهدفت إعادة اكتشاف “الجواهر الخفية” في أحياء المدينة المنسية.
من مغنّي الراب إلى عمدة أكبر مدينة أمريكية
قبل دخوله معترك السياسة، كان ممداني معروفاً في الأوساط الفنية باسم "مستر كاردموم" (Mr. Cardamom)، حيث جمع بين الموسيقى والسياسة والطعام في تجربة فريدة.
وقد صوّر مقاطع موسيقية مع أسطورة المطبخ الهندي مادهور جافري داخل مطعم كباب متواضع في كوينز، قبل أن يدخل عالم السياسة عام 2020 بشعار "روتي والورود"، الذي أصبح رمزاً لربط العدالة الاجتماعية بالثقافة الشعبية والطعام اليومي للناس.
حملة انتخابية بطعم الكباب والبرياني
كما اعتمد ممداني خلال حملته على فكرة الطعام كجسر بين المجتمعات.
فبينما كان منافسوه يعقدون لقاءاتهم في النوادي والمطاعم الراقية في مانهاتن، كان هو يتنقل بين متاجر البقالة الصغيرة ومطاعم الأحياء الفقيرة، يتناول الطعام مع العمال والمهاجرين، ويتحدث عن العدالة الاقتصادية عبر الأطباق الشعبية.
من برونكس إلى أستوريا، نظم فعاليات ميدانية داخل مطاعم أفغانية وباكستانية ومقاهٍ شرقية، مروّجاً لما أسماه “الجواهر الخفية” — المطاعم العائلية التي تصمد بصعوبة أمام موجة الغلاء والمنافسة الشرسة.
عمدة يغيّر خريطة الطعام في نيويورك
فمنذ فوزه، بدأ ممداني بالفعل في إعادة رسم مشهد المأكولات في المدينة، إذ تحولت المطاعم البسيطة التي يزورها إلى محطات جذب جديدة للسياح والسكان.
ومن أبرز هذه المطاعم "كباب كينغ" في جاكسون هايتس، الذي يقول عنه إنه يذكّره بطعام والدته، إضافة إلى مطعم "زيارة" الذي يقدم أطباق الشاورما والفلافل، وباي بوت نودل" المتخصص في الأطعمة التايلاندية الشعبية.
وقالت ميليسا مكارت، محررة مجلة "إيتر نيويورك"، إن ممداني “أعاد تعريف فكرة العمدة القريب من الناس، فهو لم يظهر من مطعم فاخر بل من بين الطهاة والباعة الذين يصنعون هوية المدينة الحقيقية”.
انعكاس سياسي وثقافي لفوزه
كما يرى مراقبون أن صعود ممداني يعكس تحولاً عميقاً في المزاج السياسي الأمريكي، إذ يمثل نموذجاً لعمدة يجمع بين الهوية الإسلامية والخلفية الاشتراكية، في مدينة تُعد رمزاً للرأسمالية الغربية.
وقد وصفه خصومه، ومنهم العمدة السابق إريك آدامز والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بأنه “يساري راديكالي”، لكن مؤيديه يرونه صوت الفقراء والمهاجرين الذين طالما تم تهميشهم.
الطعام كقوة ناعمة لتوحيد المدينة
ومن جانبه يؤكد ممداني في لقاءاته أن الطعام ليس مجرد ذوق، بل أداة لربط الناس ببعضهم وتعزيز التفاهم بين الثقافات، وهو ما يظهر في اختياره المتكرر لأطباق مثل البرياني، والأدانا لافا، والبان الهندي، وهي أطعمة تعكس جذوره المتعددة وارتباطه بالمجتمعات المهاجرة.
وقال جوناثان فورغاش، مؤسس منظمة “كوينز توجيذر” لدعم المطاعم: “ممداني سيلفت أنظار العالم إلى المأكولات الإندونيسية والماليزية والهندية التي تمثل التنوع الحقيقي في نيويورك. إنه لا يروّج فقط للطعام، بل لفلسفة ترى في كل طبق قصة مجتمع”.
سياسات داعمة لباعة الطعام والمطاعم الصغيرة
لا يكتفي ممداني بالحديث عن الطعام من منظور ثقافي، بل يسعى إلى إصلاح شامل لقطاع المطاعم وباعة الطعام المتجولين، وهو قطاع يواجه صعوبات بسبب ارتفاع الإيجارات ورسوم التصاريح.
فقد تعهد بمكافحة ما سماه “Halalflation” أو تضخم أسعار الأطعمة الحلال، وإصلاح نظام تصاريح البيع في الشوارع الذي أجبر الباعة على دفع مبالغ طائلة في السوق السوداء تصل إلى 20 ألف دولار سنوياً.
وقالت كارينا كاوفمان-غوتيريز من منظمة “مشروع الباعة المتجولين”: “ممداني يفهم تماماً القضايا التي نواجهها، وهو أول عمدة يزور عربات الطعام الحلال ويتحدث عن حقوق أصحابها”.
عندما تتحول السياسة إلى وليمة شعبية
لا يمثل فوز زهران ممداني مجرد انتصار سياسي، بل انعطافة ثقافية في واحدة من أكثر المدن تنوعاً في العالم.
فبينما كان أسلافه يقيسون نجاحهم بعدد الأبراج والمشروعات الكبرى، يقيس ممداني تأثيره بعدد المطاعم الصغيرة التي انتعشت، والوجوه التي ابتسمت حول مائدة الطعام.
بهذا النهج الإنساني المختلف، يفتح ممداني صفحة جديدة في تاريخ نيويورك، عنوانها: السياسة بطعم البرياني، والقيادة بنكهة العدالة الاجتماعية.
















0 تعليق