بمناسبة ذكرى ميلاده..
في مثل هذا اليوم، وُلد في حي الفجالة بالقاهرة أديب مصري استثنائي حمل مصر في قلبه، وكتبها بلغة ليست لغته الأم، فصار أحد أبرز رموز الأدب الفرنكوفوني في القرن العشرين؛ إنه ألبير قصيري (1913 – 2008)، الكاتب المصري من أصل سوري، الذي منح الأدب الفرنسي روح القاهرة وأزقتها، وصور الإنسان المصري في فقره وكبريائه وسخريته البديعة، ونال جائزة الأكاديمية الفرنسية للفرنكوفونية عام 1990، ولقّب بـ"فولتير النيل" لمزجه الفلسفة بالسخرية، والبساطة بالعمق.
من الفجالة إلى باريس.. رحلة ألبير قصيري
وُلد ألبير قصيري في القاهرة لأسرة مصرية من أصولٍ سورية، تعود جذورها إلى قرية القصير قرب حمص، نزحت إلى مصر في أواخر القرن التاسع عشر واستقرت في حيّ الفجالة، وكانت عائلته ميسورة الحال، ووالده من كبار المُلّاك، وتلقّى تعليمه في مدارس دينية مسيحية، ثم التحق بمدرسة العائلة المقدسة الفرنسية، فأتقن الفرنسية على حساب لغته الأم، حتى صارت وسيلته الأولى للتعبير، إذ بدأ كتابة القصص بها وهو لم يتجاوز العاشرة.
قرأ قصيري مبكرًا لبلزاك وموليير وفيكتور هوجو وفولتير، ووجد في الأدب الفرنسي مساحة للتأمل والتمرد، لكنه ظل مصري الهوى والانتماء، ولم يُكمل دراسته الثانوية لأسباب غير واضحة، غير أنه بدأ في السابعة عشرة رحلة السفر التي قادته إلى فرنسا، ثم إلى أميركا وإنجلترا، قبل أن يستقر في باريس عام 1945، حيث عاش بقية عمره في فندق صغير بحيّ سان جيرمان البوهيمي، رافضًا مظاهر الثراء أو الشهرة.
"فولتير النيل".. مصري بالوجدان فرنسي بالكلمات
في باريس، تعرف ألبير قصيري على الحياة البوهيمية وعلى كبار الأدباء والفنانين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مثل ألبير كامو – الذي كان رفيقه في مغازلة النساء – وجان جينيه، وچولييت جريكو، وجياكوميتي، وبوريس فيان، ورغم سنوات الغربة، لم يتحدث في أعماله إلا عن مصر، التي ظلت تسكنه كذاكرة ووجدان، وقال في أحد حواراته: "أنا وسأبقى مصريًا فرنسيّ الثقافة واللغة، لذلك فإن كتبي لا تتحدث سوى عن وطني الأم".
وفي مقابلة مصورة مع المخرج الفرنسي ميشال ميتراني، عبر عن رؤيته للهوية قائلا: أفكر بالعربية، حتى إذا قال لكم شخص في مصر (مرحبا)، فهناك شيء وراء الكلمة لا يمكن ترجمته، ليست مرحبًا الأوروبية الباردة… وهذا ما أحاول أن أُظهره في كتاباتي.
مؤلفات ألبير قصيري
بدأ ألبير قصيري مسيرته الأدبية بالمجموعة القصصية "بشر نسيهم الرب" عام 1941، التي لفتت الأنظار في الغرب بعد أن دافع عنها الكاتب الأميركي هنري ميلر في الأربعينيات، معتبرًا إياها كشفًا لروح الشرق الحقيقي.
وسافر قصيري في العام نفسه إلى الولايات المتحدة على سفينة متجهة إلى نيويورك عبر كيب تاون، وهناك أوقفه البوليس السري الأميركي للاشتباه في كونه جاسوسًا، قبل أن يتدخل الأديب لورانس داريل – صاحب رباعية الإسكندرية – ليؤكد لهم ساخرًا: أُؤكد لكم أن ألبير ليس جاسوسًا… إنه يقضي كل وقته في مطاردة النساء!
وتوالت أعماله بعد ذلك: بيت الموت المحتوم (1944)، كسالى الوادي الخصب (1948)، العنف والسخرية (1962)، شحاذون ونبلاء (1978)، مؤامرة مهرجين (1975)، وألوان النذالة (1992).
وفي إحدى مقابلاته الصحفية، قال قصيري موضحًا فلسفة أدبه: "جميع أحداث رواياتي تدور في القاهرة أو الإسكندرية أو دمياط، لكن ما أكتبه يهم كل الناس؛ إذ إن الإنسان الذي يعيش في مصر لا يختلف كثيرًا عن الإنسان الذي يعيش في قلب باريس، الفارق بينهما هو اللغة… والموقف الشرقي لأبطالي".
















0 تعليق