سيد طنطاوي.. شيخ الأزهر المجدد وصوت الوسطية في زمن الجدل

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في مثل هذا اليوم، الثامن والعشرين من أكتوبر، تحل ذكرى ميلاد الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الشريف السابق وأحد أبرز رموز الفكر الإسلامي في العصر الحديث، الذي كرس حياته لخدمة الدين والوطن، مدافعًا عن منهج الوسطية والاجتهاد، وناشرًا لرسالة الأزهر التي تجمع بين الأصالة والتجديد.

b5f36384a9.jpg

ولد الإمام الأكبر عام 1928 في قرية سليم الشرقية بمحافظة سوهاج، في بيت مصري بسيط جمع بين الإيمان والعلم، حفظ القرآن الكريم في طفولته، وكان منذ صغره مولعًا بالفكر والبحث والتأمل في معاني القرآن، التحق بمعهد الإسكندرية الديني عام 1944، ثم تخرج في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر عام 1958، قبل أن ينال درجة الدكتوراه في التفسير والحديث عام 1966 بتقدير مرتبة الشرف الأولى، برسالة تناولت موضوع "بنو إسرائيل في القرآن والسنة"، وهو بحث جسد قدرته المبكرة على الربط بين النصوص الشرعية والواقع الإنساني والاجتماعي.

d87b8519df.jpg

بدأ الإمام طنطاوي حياته العملية إمامًا وخطيبًا بوزارة الأوقاف عام 1960، ثم عمل مدرسًا بكلية أصول الدين، ليتدرج بعدها في السلم الأكاديمي حتى أصبح عميدًا للكلية، قبل أن يعار للتدريس في ليبيا، ومنها إلى الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، حيث رأس قسم التفسير في كلية الدراسات العليا، وهناك ذاع صيته بين طلاب العلم من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، إذ تميز بأسلوبه السهل الممتنع، وقدرته على عرض قضايا العقيدة والشريعة بمنطق علمي متزن يجمع بين العقل والنص.

 

في عام 1986، اختير الشيخ محمد سيد طنطاوي مفتيًا للديار المصرية، ليبدأ مرحلة جديدة من مسيرته الفكرية والعلمية، وقد تميزت فتاواه في تلك الفترة بالجرأة المتزنة والانفتاح على الواقع المعاصر، فناقش قضايا لم يكن التطرق إليها مألوفًا في الخطاب الديني، مثل فوائد البنوك، وتنظيم الأسرة، والعلاقات مع غير المسلمين، واعتبر أن الفقه لا يمكن أن يعيش بمعزل عن حركة المجتمع.

895.webp

كان يؤمن أن الإسلام دين عقل وتفكير، لا تحجر ولا انغلاق فيه، وأن الجمود في فهم النصوص يعد خطرًا على الدين نفسه، ولذلك دعا إلى الاجتهاد المنضبط الذي يراعي مقاصد الشريعة وروحها، لا ظاهر النص فقط، وقد عبر عن هذا الفكر بوضوح في كتابه الشهير "معاملات البنوك وأحكامها الشرعية"، الذي قدم فيه معالجة فقهية عصرية للمسائل المالية بعيدًا عن التشدد أو الانغلاق، فكان الكتاب محل نقاش واسعًا في الأوساط الدينية والاقتصادية.

 

وفي 27 مارس 1996، عين الشيخ محمد سيد طنطاوي شيخًا للأزهر الشريف خلفًا للشيخ جاد الحق علي جاد الحق، ليصبح الشيخ التاسع والأربعين في تاريخ الأزهر، وليبدأ فصلًا جديدًا من تاريخ المؤسسة الدينية العريقة، كانت رؤيته تقوم على إعادة إحياء دور الأزهر كمظلة فكرية للعالم الإسلامي ومنبر للتقارب والحوار، وفي عهده شهد الأزهر نهضة علمية وفكرية كبيرة، وتطورًا ملحوظًا في المناهج التعليمية بما يتماشى مع متطلبات العصر.

692b9d38b0.jpg

كان الإمام الأكبر من أشد المدافعين عن المرأة وحقوقها المشروعة في التعليم والعمل والميراث، كما دعا إلى الحوار بين الأديان ونبذ التطرف والغلو، مؤكدًا أن الإسلام لا يعرف العنف ولا يرضى بالكراهية، وأن العالم في حاجة إلى "دين يوحد القلوب لا يزرع بينها العداوات".

 

ورغم ما أثارته بعض آرائه من جدل، كفتواه حول فوائد البنوك أو رأيه في النقاب، فقد ظل ثابتًا على مبدأه بأن “الاجتهاد لا يُقابل بالتجريم”، وكان يقول دائمًا: “نحن في حاجة إلى عقول تفكر، لا إلى ألسنة تكرر.”

ترك الشيخ طنطاوي إرثًا علميًا ضخمًا من المؤلفات التي أثرت المكتبة الإسلامية، أبرزها:

التفسير الوسيط للقرآن الكريم، وهو من أكثر كتب التفسير انتشارًا في العالم الإسلامي.

بنو إسرائيل في القرآن والسنة، الذي تناول فيه القضايا الدينية من منظور موضوعي تحليلي.

القصة في القرآن الكريم، والدعاء، والفقه الميسر.

 

كما حصل على الدكتوراه الفخرية في صنع السلام عام 1995، وشارك في العديد من المؤتمرات الدولية التي تناولت قضايا التجديد والإصلاح الديني، وكان أحد العلماء الذين ألقوا الدروس الحسنية الرمضانية أمام الملك محمد السادس في المغرب، وهو تقدير دولي كبير لمكانته الفكرية والعلمية.

6976664f1f.jpg

وفي 10 مارس 2010، أثناء مشاركته في حفل توزيع جوائز الملك فيصل العالمية بالرياض، وافته المنية إثر أزمة قلبية مفاجئة، ودفن بالبقيع الشريف في المدينة المنورة، حيث استراح جسده في أرض طالما أحبها وسكن قلبه شوقها.

 

لقد كان الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوي أكثر من مجرد شيخ للأزهر، كان عالمًا مجددًا ومصلحًا جريئًا، آمن بأن قوة الدين في مرونته، وأن الإسلام الحقيقي هو الذي يتفاعل مع الحياة ويقودها نحو الخير، لم يكن صوته صاخبًا، لكنه كان عميق التأثير، جمع بين التواضع في الشخصية والحزم في الفكر، وبين الأصالة في المنهج والمعاصرة في الطرح.

899.jpg

ورغم مرور السنوات على رحيله، ما زالت أفكاره تضيء طريق كل من يسعى إلى فهم الدين بروح العقل والرحمة، سيظل محمد سيد طنطاوي أحد رموز الوسطية الإسلامية وواحدًا من أبرز شيوخ الأزهر الذين حملوا لواء التجديد في زمن كثرت فيه الأصوات المتشددة، فكان لسان الحكمة وصوت الاعتدال، وعالمًا جسد في مسيرته معنى أن تكون "أزهريًا بحق": عالمًا بالعقل، مؤمنًا بالقلب، ومخلصًا في العمل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق