يتزامن اليوم الثلاثاء 28 أكتوبر 2025، مع ذكرى ميلاد أحد أبرز شعراء الكلمة الغنائية في تاريخ الموسيقى العربية، الشاعر الكبير مأمون الشناوي، الذي أهدى الأغنية العربية عطرها الخاص ولغتها المفعمة بالعشق والصدق والوجدان، لم يكن الشناوي مجرد كاتب أغنيات، بل كان صانع مشاعر وأستاذ الإحساس، استطاع أن يترجم خلجات القلب الإنساني إلى جمل شعرية تنبض بالحياة، لتبقى كلماته خالدة على ألسنة الأجيال.
شاعر العاطفة الصادقة
ولد مأمون الشناوي في مدينة المنصورة عام 1914، في أسرة محبة للفن والأدب، وكان شقيقه الكاتب والصحفي الكبير كامل الشناوي، منذ صغره أظهر مأمون شغفًا بالكلمة والغناء، فكان يكتب القصائد العاطفية ويتردد على المسارح ليستمع إلى كبار المطربين، حتى أصبح لاحقًا واحدًا من أهم الشعراء الغنائيين في تاريخ مصر.
امتدت رحلته الفنية على مدى عقود طويلة، من أربعينيات القرن الماضي وحتى رحيله في 27 يونيو 1994، وخلالها قدم للأغنية المصرية تراثًا خالدًا امتزج فيه الرقي الأدبي بالوجدان الشعبي.
تعاون مع عمالقة الغناء العربي
يعد مأمون الشناوي من أكثر الشعراء الذين تعاونوا مع كوكبة من نجوم الطرب العربي، وكانت أغنياته جسرًا يربط بين الكلمة والموسيقى في انسجام نادر، فقد كتب لكوكب الشرق أم كلثوم أربع روائع خالدة هي: “أنساك يا سلام”، “كل ليلة وكل يوم”، “بعيد عنك”، وأيقونتها الشهيرة “ودارت الأيام”، التي لحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب، واعتبرت من أعظم الأعمال التي جمعت بين الشاعر والمطربة والملحن في تناغم فني لا يُنسى.
أما مع العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، فكانت الشراكة أكثر عمقًا واستمرارية، كتب له مأمون الشناوي عددًا من الأغاني التي شكلت وجدان جيل كامل، مثل: “أنا لك على طول”، “بيني وبينك إيه”، “صدفة”، “نعم يا حبيبي نعم”، “بعد إيه”، “خسارة خسارة”، و“حلو وكداب”، تنوعت ألحانها بين كبار الملحنين مثل محمد عبد الوهاب، كمال الطويل، محمد الموجي، بليغ حمدي، ومحمود الشريف، لكن القاسم المشترك بينها كان كلمة مأمون الشناوي التي منحتها الخلود.
كذلك كان له تعاون فني مميز مع الموسيقار فريد الأطرش، فكتب له باقة من أجمل الأغاني التي لا تزال تعد من كلاسيكيات الغناء العربي، منها: “حبيب العمر”، “بنادي عليك”، “الربيع”، “أول همسة”، “حكاية غرامي”، “جميل جمال”، “يا قلبي يا مجروح”، و“سافر مع السلامة”.
كما تعاون مع المطربة فايزة أحمد في أغنيات مثل “تهجرني بحكاية” و“بصراحة” من ألحان محمد عبد الوهاب، إلى جانب أعمال أخرى مع أسمهان وليلى مراد ونجاة الصغيرة، ما جعله شاعرًا لكل العصور والأصوات.
أغنية الربيع.. بداية الخلاف مع أم كلثوم
من المواقف الشهيرة في مسيرة مأمون الشناوي قصته مع أغنية “الربيع”، التي كتبها في البداية خصيصًا لأم كلثوم، أُعجبت كوكب الشرق بكلمات الأغنية، لكنها طلبت إجراء بعض التعديلات في النص قبل أن تغنيها، غير أن الشاعر رفض ذلك رفضًا قاطعًا، مؤكدًا تمسكه الكامل بكلماته كما كتبها.
يروي الشناوي في أحد حواراته:
“أخذني حماس الشباب ورفضت تعديل كلمة واحدة، رغم أني كنت أتمنى أن تغنيها أم كلثوم".
بعد فترة، عرض فريد الأطرش على الشناوي أن يلحن الأغنية ويعيد تقديمها لأم كلثوم، فوافق الشاعر، لكن الموقف تكرر مرة أخرى حين طلبت أم كلثوم التعديل، فرفض الشناوي مجددًا، عندها قرر فريد أن يحتفظ بالأغنية لنفسه ويغنيها، لتصبح “الربيع” واحدة من أشهر أعماله وأجمل الأغنيات في تاريخ الموسيقى العربية.
هل قاطع الشناوي أم كلثوم؟
بعد نجاح أغنية “الربيع”، انتشرت شائعات عن وجود قطيعة فنية بين مأمون الشناوي وأم كلثوم بسبب خلافهما حول تعديل الكلمات، لكن الشاعر الكبير نفى ذلك تمامًا، قائلًا:
“لم تكن هناك قطيعة بيني وبين أم كلثوم، كانت دائمًا تتصل بي لتبدي رأيها في الأغاني التي كتبتها لعبد الوهاب وفريد ونجاة الصغيرة، وأحيانًا كانت تمزح وتقول: مش هتعمل لي حاجة كويسة بقى؟”.
وقد شاع بين الفنانين آنذاك أن أم كلثوم كانت تطلق عليه مازحة لقب "مأموص" بدلًا من مأمون، في إشارة إلى تمسكه وكبريائه الفني.
الكبرياء الشعري ومبدأ لا يتزحزح
كان مأمون الشناوي يؤمن أن الكلمة الشعرية عمل فني مكتمل لا يجوز تعديله بعد كتابته، وكان يقول دائمًا:
“الكلمة مثل لوحة فنية لا يمكن تغيير ملامحها بعد اكتمالها.”
يروي أنه رد على أم كلثوم ذات مرة قائلًا:
“لو دخلت معرض رسام وأعجبتك لوحة، هل من المعقول أن تطلبي منه أن يغير فيها حتى تشتريها؟ قالت لا، فقلت لها: وأنا كذلك لا أغير كلماتي بعد أن أكتبها".
ذلك الكبرياء الأدبي جعله موضع احترام بين زملائه من الشعراء والمطربين، حتى وإن اختلفوا معه.
رحل مأمون الشناوي عام 1994، لكنه ترك وراءه إرثًا غنائيًا ضخمًا يجمع بين الرقة والصدق والعمق الإنساني، لم تكن كلماته مجرد وصف للعاطفة، بل كانت فلسفة في الحب والحياة، تغنى كما تقرأ، كتب عن الشوق واللوعة والوفاء والكرامة، فكان شاعر المشاعر الصادقة وصوت القلب العربي.
لقد استطاع مأمون الشناوي أن يعيد تشكيل هوية الأغنية العربية الحديثة، مانحًا الكلمة الغنائية هيبتها الأدبية وجمالها الفني، وبقيت أعماله خالدة، تتجدد مع كل جيل يعشق الكلمة الجميلة واللحن الصادق.
في ذكرى ميلاده، يبقى مأمون الشناوي شاعر الحب الأول وضمير الأغنية العربية، الذي كتب للحب بصدق، وللوجدان بخلود، ليبقى صوته الشعري حاضرًا في ذاكرة الفن العربي ما دام هناك قلب يحب وأذن تنصت.


















0 تعليق