آرثر كورنبرج.. مكتشف أسرار الحمض النووي والحاصل على نوبل في الطب

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في الثالث من مارس عام 1918، ولد آرثر كورنبرج في مدينة نيويورك لعائلة مهاجرة من بولندا، نشأ في بيت بسيط، لكن شغفه بالعلم بدأ مبكرًا، كان يقضي ساعات طويلة في قراءة كتب الكيمياء والأحياء، مفتونًا بعجائب الخلية وأسرار الحياة، وبعد تفوقه الدراسي، التحق بكلية الطب في جامعة روتشستر، وتخرج منها عام 1941، وهناك بدأت رحلته مع الكيمياء الحيوية، المجال الذي سيغير فيه وجه العالم لاحقًا.

الإنزيمات
الإنزيمات

من المعمل إلى التاريخ

بدأ كورنبرج عمله في المعهد الوطني للصحة الأمريكي (NIH) بعد تخرجه مباشرة، وهناك انغمس في أبحاث الإنزيمات، باحثًا عن كيفية تفاعلها داخل الخلايا، كان مقتنعًا بأن وراء عملية انقسام الخلايا آلية دقيقة لنسخ المعلومات الوراثية، لم يكن يدري حينها أن هذا الفضول سيقوده إلى اكتشاف سيصبح حجر الأساس في علم الوراثة الحديث.

الخلايا
الخلايا

اكتشاف قلب الحياة.. إنزيم بوليميراز الحمض النووي

في خمسينيات القرن الماضي، نجح آرثر كورنبرج في تحقيق أحد أهم الاكتشافات في تاريخ الطب والكيمياء الحيوية: اكتشاف إنزيم بوليميراز الحمض النووي (DNA Polymerase)، وهو الإنزيم المسؤول عن تكرار الحمض النووي (DNA) داخل الخلية عند انقسامها.

كان هذا الاكتشاف بمثابة إعلان رسمي لفهم كيف تتكاثر المادة الوراثية التي تحمل سر الحياة للمرة الأولى، عرف العلماء كيف تقوم الخلايا بنسخ الجينات بدقة مذهلة لتوريث الصفات من جيل إلى آخر.

الحمض النووي DNA
الحمض النووي DNA

جائزة نوبل.. تكريم لاكتشاف غير العالم

عام 1959، حصل كورنبرج على جائزة نوبل في الطب أو الفسيولوجيا مناصفة مع زميله سيفيرو أوتشوا، الذي اكتشف آلية تخليق الحمض النووي الريبي (RNA).

أكدت لجنة نوبل في بيانها أن "أبحاث كورنبرج فتحت الباب أمام فهم البنية الجزيئية للحياة، ووضعت الأساس للطب الحديث في مجالات الوراثة والبيولوجيا الجزيئية".

العلم أسلوب حياة

لم يكن كورنبرج مجرد عالم مختبر، بل كان صاحب فلسفة علمية عميقة، كان يؤمن بأن “العلم ليس مهنة، بل أسلوب حياة قائم على الفضول والشك والسعي للحقيقة.”

تولى رئاسة قسم الكيمياء الحيوية بجامعة واشنطن في سانت لويس، وهناك أسس مدرسة بحثية خرجت أجيالًا من العلماء، بينهم ابنه روجر كورنبرج، الذي سار على خطاه ونال جائزة نوبل في الكيمياء عام 2006 لاكتشافه آلية نسخ الحمض النووي الريبي (RNA Polymerase). وهكذا، تحولت عائلة كورنبرج إلى رمز للوراثة العلمية عبر الأجيال.

الحمض النووي DNA
الحمض النووي DNA

دقة الباحث وإرث العالم

تميزت أبحاث كورنبرج بالدقة الشديدة في التجارب، وبتوثيق كل خطوة علمية بدقة متناهية، وهو ما جعل نتائجه مرجعًا أساسيًا في علم الكيمياء الحيوية، كما ساهم في تطوير تقنيات أصبحت اليوم جزءًا من أدوات الطب الحديث، مثل النسخ الجيني وتخليق الحمض النووي في المختبر.

ألف عددًا من الكتب التي تجمع بين العلم والفكر، من أبرزها كتاب “DNA Synthesis” الذي يعد من كلاسيكيات العلوم الحديثة، وكتاب “For the Love of Enzymes” الذي جمع فيه بين السرد الشخصي والتأمل الفلسفي في رحلة البحث عن المعرفة.

788.jpg

إرث يتوارثه الزمن

على مدار حياته، حصل كورنبرج على عشرات الجوائز والأوسمة من مؤسسات علمية حول العالم، تقديرًا لإسهاماته التي غيرت فهم البشرية للحياة على المستوى الجزيئي، لكنه ظل متواضعًا، يرى أن “كل اكتشاف هو ثمرة تعاون وجهد جماعي، لا بطولة فردية.”

أثر اكتشافه على الطب والوراثة الحديثة

ما قدمه آرثر كورنبرج لم يكن مجرد اكتشاف مخبري، بل كان نقطة تحول في فهمنا للوراثة والمرض والعلاج بفضله، أصبح العلماء قادرين على استنساخ الجينات، وتحليل الطفرات المسببة للأمراض الوراثية، وتطوير علاجات تعتمد على فهم الحمض النووي مثل العلاجات الجينية الحديثة.

كما مكن اكتشافه العلماء من فهم آليات تطور السرطان، لأن الخطأ في عملية نسخ الحمض النووي هو أحد أسباب التحول الخلوي، وفتح الباب أمام تقنية الحمض النووي المؤتلف (Recombinant DNA) التي قادت إلى إنتاج الأنسولين البشري في المختبر، وهو إنجاز طبي أنقذ ملايين الأرواح.

789.jpeg

النهاية التي لا تنسى

توفي آرثر كورنبرج في 26 أكتوبر 2007 عن عمر ناهز 89 عامًا، لكنه ترك وراءه إرثًا علميًا خالدًا، فكل بحث في الجينات، وكل تجربة في الهندسة الوراثية، وكل تقدم في علاج الأمراض المستعصية، يحمل بصمته بطريقة أو بأخرى.

لقد غير كورنبرج نظرتنا إلى ماهية الحياة ذاتها، وكشف أن في قلب كل خلية شيفرة خالدة تُنسخ بعناية منذ فجر التاريخ، حاملة سرّ البقاء.

العالم الذي أضاء الطريق

من معمل صغير في واشنطن إلى قاعة نوبل في ستوكهولم، سطر آرثر كورنبرج فصلًا مجيدًا في تاريخ العلم، لم يكن يسعى وراء المجد، بل وراء الفهم، فهم الحياة في أبسط صورها، حيث تتحد الكيمياء مع الخلود في خيط دقيق من الـDNA، يحمل فيه الإنسان سر الماضي والمستقبل معًا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق