في غضون أشهر قليلة، أحدثت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحولًا واسع النطاق في سياسات التجارة، عبر فرض تعريفات جمركية شاملة تراوحت بين 10% و50% على معظم الشركاء التجاريين، شملت قطاعات استراتيجية مثل الفولاذ والألمنيوم والسيارات.
وبذلك ارتفع متوسط الرسوم الفعلية إلى نحو 18%، وهو المستوى الأعلى منذ قرن تقريبًا.
ووفق تحليل لمجلة فورين أفيرز، يبرر ترامب هذه الإجراءات بمنطق قومي واقتصادي مزدوج، إذ يرى في الرسوم وسيلة لتعزيز الفائض المالي وتنشيط الصناعة الأمريكية لدعم القوة العسكرية. وبحسب تعبيره الشهير: “تحميك الحروب الاقتصادية بقدر ما تحميك الدبابات.”
كلفة باهظة للعزلة الاقتصادية
لكن هذه الحمائية الجديدة تأتي بثمن مرتفع، فبعد نصف قرن من الاندماج العميق في سلاسل الإمداد العالمية، أصبحت الشركات الأمريكية أكثر كفاءة وجودة بفضل العولمة الصناعية.
أما اليوم، فإن فك الارتباط بهذه الشبكات أدى إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وتراجع القدرة التنافسية، حتى في القطاعات الدفاعية الحساسة.
المقاولون العسكريون باتوا يواجهون أسعارًا أعلى للمواد الخام، ما يقيّد قدراتهم على التصدير، في وقت يتجه فيه الحلفاء إلى تطوير صناعاتهم الدفاعية الوطنية وتقليل الاعتماد على السوق الأمريكية.
مؤشرات اقتصادية مقلقة
المعطيات الاقتصادية لا تبشّر بخير:
- انكماش قطاع التصنيع الأمريكي لستة أشهر متتالية (وفق معهد إدارة الإمدادات ISM).
- فقدان 78 ألف وظيفة صناعية خلال عام واحد.
- ارتفاع معدلات التضخم بسبب انعكاس الرسوم على أسعار السلع المحلية والمستوردة.
- تراجع الصادرات واستقرار العجز التجاري رغم انخفاض الواردات من الصين.
- كما أن نحو 45% من الواردات الأمريكية هي مدخلات إنتاج أساسية، ما يعني أن ارتفاع أسعارها يرفع تكلفة كل سلعة تقريبًا داخل الولايات المتحدة.
العالم يردّ بتعددية تجارية جديدة
الرد الدولي جاء سريعًا وحاسمًا، فقد تحركت القوى الاقتصادية الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي، الصين، الهند، البرازيل، والمملكة المتحدة لإعادة رسم خريطة التجارة العالمية بعيدًا عن هيمنة واشنطن.
- الاتحاد الأوروبي أعاد إحياء اتفاق “ميركوسور” مع أمريكا الجنوبية.
- بدأ مفاوضات مع الهند وإندونيسيا.
- ويدرس الانضمام إلى الاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP).
وبذلك، تتجه التجارة العالمية نحو نظام متعدد الأقطاب لا يدور في فلك الاقتصاد الأمريكي كما كان لعقود.
صناعة الدفاع في دائرة الخطر
حتى القطاع الدفاعي الأمريكي لم يسلم من تداعيات الرسوم الجمركية، فالولايات المتحدة لطالما اعتمدت على شبكات توريد دولية تشمل اليابان وكوريا الجنوبية وأوروبا وأستراليا لتوفير المعادن النادرة والرقائق الإلكترونية.
قطع هذه الشبكات يعني تراجع المرونة الإنتاجية وزيادة الهشاشة الاستراتيجية، والأخطر أن الحلفاء بدأوا بالفعل في تنويع مصادر تسليحهم:
- فرنسا تدعو إلى “الشراء الأوروبي”.
- الدنمارك وإسبانيا تتجهان نحو أنظمة دفاعية أوروبية.
- المفوضية الأوروبية تستبعد الشركات الأمريكية من صندوقها الدفاعي البالغ 176 مليار دولار.
- وفي آسيا، بدأت اليابان وكوريا الجنوبية بتطوير صناعات دفاعية محلية لتقليل الاعتماد على واشنطن.
القلعة الاقتصادية.. سجن ذاتي؟
رغم النية المعلنة لحماية “أمريكا أولًا”، تكشف المؤشرات أن سياسات ترامب قد تؤدي إلى اقتصاد أقل تنافسية وحلفاء أكثر استقلالًا وصناعة دفاعية أقل قوة.
فالاقتصاد الأمريكي، مهما بلغ حجمه، لا يمكنه وحده إعادة إنتاج مزايا التعاون الدولي التي بنت تفوقه الصناعي والتقني لعقود.
حتى الصناعات الأمنية تحتاج إلى مدخلات أجنبية — من المعادن النادرة إلى أشباه الموصلات — ما يجعل الانعزال الاقتصادي أقرب إلى خسارة ذاتية مقنّعة بالسيادة.
نحو "عولمة آمنة" لا انعزال كامل
يرى التحليل أن الطريق الأمثل لا يكمن في إغلاق الأسواق، بل في إعادة هيكلة العولمة على أسس من الثقة والتوازن.
فيمكن لواشنطن أن تتبنى سياسة “الصداقة الإنتاجية” (Friend-shoring)، التي تميّز بين الشركاء الموثوقين والخصوم الاقتصاديين، مع فرض رسوم انتقائية على الصناعات ذات الحساسية الأمنية فقط.
كما أن الدعم الحكومي الذكي للقطاعات الحيوية مثل أشباه الموصلات والمعادن النادرة يمكن أن يعزز الاستقلال دون خوض حرب تجارية مفتوحة.
الانفتاح المدروس هو سر القوة
تثبت التجربة أن الاعتماد المتبادل المنظم هو جوهر القوة الأمريكية، لا الانعزال، فالتعاون مع الحلفاء هو ما وفّر للولايات المتحدة الابتكار، والموارد، والمصداقية الاستراتيجية التي بنت بها تفوقها.
أما الحرب التجارية الشاملة، فقد تجعلها رغم نواياها الحمائية أقل ثراءً وأقل أمانًا في عالمٍ يعيد تشكيل نفسه بعيدًا عن مركز واشنطن.










0 تعليق