لم يكن الاجتماع الأخير للفصائل افلسطينية مجرد لقاء تشاوي عابر، بل لحظة سياسية فارقة، أعادت فيه القاهرة رسم معالم المشهد الفلسطيني والإقليمي بالكامل، فبدعوة من القاهرة ورعاية مباشرة من الرئيس عبد الفتاح السيسي اجتمعت الفصائل الفلسطينية ضمن مسار سياسي شامل يعيد للملف الفلسطيني مركزه الطبيعي في الخارطة العربية، ويؤسس لمرحلة جديدة من العمل الوطني المشترك، عنوانها الأبرز الوحدة بدل الانقسام، والسياسة بدل الفوضى.
مصر تعيد ضبط البوصلة الفلسطينية
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة فى 7 أكتوبر 2023، أدركت القاهرة أن استمرار الانقسام الفلسطيني لم يعد مجرد أزمة داخلية، بل ثغرة أمنية وإقليمية تمس الأمن القومي المصري والعربي على السواء، لذلك تحركت مصر، بخطوات محسوبة وواقعية، لتعيد الإمساك بملف المصالحة، واضعة أمامها هدفًا استراتيجيًا يتمثل في توحيد الكلمة الفلسطينية وتثبيت وقف إطلاق النار كمدخل لحل سياسي أوسع.
الدعوة المصرية للاجتماع لم تأتي من فراغ، بل جاءت استكمالًا لنتائج قمة شرم الشيخ للسلام التي عقدت في أكتوبر الماضي بمشاركة قادة عرب وأوروبيين، والتي مهدت لإطلاق المرحلة الثانية من خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف الحرب على غزة، وبينما ركزت قمة شرم الشيخ على البعد الإقليمي للحل، حملت القاهرة 2025 الهم الفلسطيني الداخلي، كيف يمكن تحويل التهدئة إلى مشروع وطني موحد؟
الفصائل تحت مظلة السيسي.. عودة القاهرة كمرجعية سياسية
وبرعاية شخصية من الرئيس السيسي، اجتمع ممثلو الفصائل الفلسطينية في القاهرة، وافتتحوا لقائهم بتحية صمود الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، مؤكدين أن اللحظة الراهنة تتطلب “موقفًا وطنيًا موحدًا ورؤية سياسية جامعة”.
وفي البيان الختامي، أجمعت الفصائل على دعم تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بكل بنوده، بما يشمل انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع ورفع الحصار وفتح المعابر وبدء إعادة الإعمار، لكن الأهم من كل ذلك كان الاتفاق على تسليم إدارة قطاع غزة إلى لجنة فلسطينية مؤقتة من المستقلين “التكنوقراط”، تتولى تسيير شؤون الحياة والخدمات الأساسية بالتعاون مع الأشقاء العرب والمؤسسات الدولية، في خطوة غير مسبوقة نحو فصل الإدارة المدنية عن الفصائلية السياسية.
هذه الصيغة لم تكن بمعزل عن الرؤية المصرية، التي طالما أكدت أن الحل الحقيقي في غزة ليس في تقاسم النفوذ، بل في بناء إدارة مدنية مهنية تحفظ وحدة القرار الفلسطيني وتعيد الثقة إلى المجتمع الدولي تجاه قدرة الفلسطينيين على إدارة شؤونهم بمسؤولية.
قراءة في الرمزية السياسية
يكتسب اجتماع القاهرة أهميته مع رمزيته السياسية المتعددة، فهو من ناحية أول اجتماع فلسطيني يعقد منذ سنوات تحت مظلة عربية خالصة، بعيدًا عن الاستقطابات الإقليمية التي أضعفت الموقف الفلسطيني.
ومن ناحية أخرى، يعكس توافقًا ضمنيًا بين القاهرة وواشنطن حول ضرورة بناء إدارة فلسطينية جديدة في غزة تهيئ لمرحلة “ما بعد الحرب”، وتضمن بقاء القطاع ضمن الإطار الوطني الفلسطيني، لا في فراغ سياسي أو أمني.
البيان تضمن كذلك إشادة بجهود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في خطوة لافتة تعبر عن توازن مصري محسوب بين الانفتاح على واشنطن والحفاظ على القرار العربي المستقل، هذا التوازن هو ما مكن مصر من الحفاظ على موقعها كوسيط مقبول من جميع الأطراف فلسطينية، عربية، ودولية دون أن تفقد صدقيتها أو عمقها القومي.
بين “التكنوقراط” وإعادة الإعمار
اختيار تشكيل لجنة “تكنوقراط” لإدارة غزة لا يعد تفصيلًا إداريًا، بل تحولًا سياسيًا استراتيجيًا، فهو يعبر عن إدراك الفصائل، خاصة فتح وحماس بأن المرحلة تتطلب إدارة مهنية محايدة تستطيع التعامل مع المانحين الدوليين، وتنظيم عملية الإعمار بعيدًا عن الاستقطاب السياسي، كما أنه يعيد رسم العلاقة بين السلطة الوطنية والفصائل المسلحة، بحيث يصبح السلاح أداة للدفاع لا للمنافسة السياسية، وهى النقطة التي طالما مثلت جوهر الخلاف الفلسطيني الداخلي.
مصر من جانبها، تدرك حساسية هذه المرحلة، ولذلك تسعى لتأمين غطاء عربي ودولي يضمن عدم فراغ السلطة في القطاع، ويمنع أي محاولات خارجية للالتفاف على القرار الوطني، وفي الوقت نفسه، تتابع القاهرة التنسيق مع الأمم المتحدة لبحث تشكيل قوات أممية مؤقتة لمراقبة وقف إطلاق النار وضمان أمن المدنيين، وهو طرح يعكس رغبة مصر في تثبيت الاستقرار الميداني كشرط مسبق لأي تقدم سياسي.
البعد الإقليمي.. مصر كجسر بين الأطراف
تحرك القاهرة لايمكن فصله عن الساق الإقليمي الواسع، فمصر تعمل على خطين متوازيين الأول مع قطر وتركيا لتوحيد الموقف الداعم لوقف الحرب وتمويل الإعمار، والثاني مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتأمين الاعتراف بالترتيبات الجديدة في غزة، هذا الدور المركب أعاد لمصر مكانتها كجسر توازن إقليمي بين الشرق والغرب، وبين الفصائل الفلسطينية والعواصم الكبرى.
كما أن القاهرة تدرك أن استعادة الوحدة الفلسطينية ليست فقط هدفًا وطنيًا، بل أيضًا مصلحة استراتيجية عربية في ظل محاولات بعض القوى الإقليمية توظيف الانقسام الفلسطيني لتعزيز نفوذها السياسي والعسكري في المنطقة.
من الميدان إلى السياسة
رغم التفاؤل الذي رافق اجتماع القاهرة، إلا أن التحديات أمام التنفيذ تبقى معقدة، فملف السلاح والتنظيمات الأمنية في غزة سيظل نقطة اختبار حقيقية لقدرة الفصائل على تقديم تنازلات مؤلمة من أجل المصلحة الوطنية، كما أن إعادة الإعمار تحتاج إلى آلية شفافة تضمن توزيع الموارد بعدالة، وتجنب تكرار التجارب السابقة التي غذت الفساد والانقسام، ويبقى الموقف الإسرائيلي المتحفظ على أي صيغة فلسطينية موحدة أحد أبرز العقبات، خاصة مع استمرار تل أبيب في فرض وقائع ميدانية على الأرض عبر التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، الذي أدانه الاجتماع باعتباره عدوانًا على الهوية الفلسطينية.
نحو مشروع وطني جديد
ولعل النتيجة الأهم لاجتماع القاهرة هى أعادة إحياء مفهوم المشروع الوطني الفلسطيني بعد سنوات من التيه والإنقسام، فالدعوة إلى عقد اجتماع وطني شامل وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، تمثل بداية مسار جديد يعيد للمؤسسات الفلسطينية دورها الطبيعي ويمنح القرار الوطني شرعيته الجامعة، في هذا الإطار، فالقاهرة تؤكد للفلسطينيين أنه لن يكون هناك مستقبل دون وحدة، ولا وحدة دون رؤية وطنية واحدة.













0 تعليق