شهد معرض الأقصر الرابع للكتاب – الذي تنظمه الهيئة المصرية العامة للكتاب – ندوة أدبية لمناقشة رواية "مفازة العابرين" للروائي ناصر خليل، بحضور نخبة من المثقفين والمهتمين بالأدب، حيث قدّم المناقشة الدكتور محمود النوبي أستاذ الأدب العربي والنقد الحديث، وأدارها الباحث والأديب بستاني النداف، وذلك تحت رعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، وضمن محور "جسور الإبداع".
في مستهل اللقاء، رحّب الدكتور بستاني النداف بضيوف الندوة، مقدمًا لمحة تعريفية عن سيرة الدكتور محمود النوبي والروائي ناصر خليل، قبل أن يفتح باب التساؤل حول ما تطرحه الرواية من رؤى وأسئلة متشابكة ترتبط بالمكان والزمان والهوية والسلطة، ثم قدّم النداف عرضًا موجزًا لأحداث الرواية، أشار فيه إلى أن "مفازة العابرين" تجسد الصراع الأزلي بين القوي والمهمش، حيث تدور أحداثها في واحة أسطورية تُدعى "ميت الشوم"، تمثل نموذجًا مكثفًا لمجتمع ينهار فيه العدل وتغيب المساواة، فيتحول الهروب من القهر إلى سجن جديد أشد قسوة.
الرواية – كما أشار – تُروى من خلال شهادات متعددة، تمنحها بعدًا تعدديًا في السرد، وتكشف عن رؤية رمزية للعالم، فهي مكتوبة بلغة شعرية أنيقة، تنسج من القهر والاغتراب نسيجًا جماليًا وإنسانيًا في آنٍ واحد.
ثم قدّم الدكتور محمود النوبي قراءته النقدية للرواية، التي تناولها من زاوية "الدال السردي والزمن الروائي"، موضحًا أن خليل أحد مبدعي الأقصر الذين يعايشون بيئتهم ويعبّرون عنها بصدقٍ فنيّ، وأن روايته تمثل تجربة فريدة في رصد المفارقات الزمنية داخل النص.
وأوضح النوبي أن الدال السردي يتوزع في بنيات الرواية كلها، ليمنح النص عمقًا تأويليًا متجددًا، بينما يشكل الزمن الروائي – باعتباره زمن القص الخيالي – محورًا بنائيًا يتقاطع مع عناصر السرد الأخرى مثل المكان والشخوص والحوار.
وبيّن أن الزمن في الرواية ينقسم إلى زمن داخلي يتعلق بحركة الأحداث وتطورها داخل النص، وزمن خارجي هو زمن الكتابة والتلقي، حيث ينعكس فيه أثر اللحظة التاريخية والنفسية على البناء الكلي للرواية.
وأكد النوبي أن المعنى الأدبي لا يُنتَج من النص وحده، بل من التفاعل الخلّاق بين الكاتب والقارئ، إذ يسهم القارئ في إنتاج الدلالة عبر فهمه للبعد الزمني والرمزي للنص، مشيرًا إلى أن "مفازة العابرين" نموذج لهذا التفاعل المفتوح على قراءات متعددة.
ولفت إلى أن الرواية كُتبت في ظل جائحة الوباء، فجاءت محملة بإسقاطات على العزلة والخوف والبحث عن النجاة، حيث نجح ناصر خليل في تحويل تلك التجربة إلى عالم روائي زاخر بالرموز والتأملات.
فـ"مفازة العابرين" – كما وصفها النوبي – تجمع بين سردية الأخبار ووثيقة المؤرخ وشفاهية الحكي وذاتية الخطاب، وتقدم بنية مركبة ذات مستويات متعددة من السرد، تتشابك فيها الأصوات والأزمنة لتصنع نصًا مفتوحًا على التأويل والتأمل معًا.
أما الروائي ناصر خليل، فقد قدّم في مداخلته شرحًا للرؤية التي انطلقت منها روايته، موضحًا أنها تستلهم أحداثها من واقع قرية السلامية خلال فترة حكم محمد علي الكبير، وأثناء ثورة أحمد الطيب، حيث يفر الثائرون إلى الجبل ليؤسسوا مجتمعًا جديدًا يُعرف باسم "ميت الشوم"، يصبح مأوى لكل من لفظته الحياة.
في هذا المكان الهامشي يجتمع الهارب والمقهور والمجروح من مختلف المشارب: فطوم الدارفورية، مازا الشركسية، يونس الزبيدي، دياب البليحي، الحاج الديك، حفيظة الحاوي، حسنية الزين، القس بنامين حنا، الشيخ غريب، وسيد أبو فهيمة وغيرهم، جميعهم يروون حكاياتهم، ويعترفون بآلامهم دون أن يسأل أحد عن ماضي الآخر.
وفي ختام الندوة، أشار خليل إلى أن "ميت الشوم" لم تكن مجرد مكانٍ للهروب، بل رمزًا للتعايش الإنساني رغم اختلاف الجراح، حيث عاش القاتل بجوار الضحية، والعاهرة بجانب العابد، في ما يشبه ميثاقًا غير مكتوب للتسامح الإنساني.
وبذلك، جاءت "مفازة العابرين" – كما أجمع الحضور – نصًا يحتفي بالهامش الإنساني، ويطرح أسئلة الوجود والحرية والقدر، في لغةٍ فنيةٍ راقية تنحاز إلى الإنسان في ضعفه وقوته على السواء.


















0 تعليق