مصر بوابة الإنسانية والسياسة الواقعية في حرب غزة

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

السبت 25/أكتوبر/2025 - 06:18 م 10/25/2025 6:18:28 PM

عندما يشتعل لهيب الحرب في غزة، يلتفت الجميع إلى مصر، وحتى قبل أن يدعونا أحد للتدخل، كنا هناك، كما كانت مصر دائما، على تخوم النار والإنسانية، تحمل همّ الفلسطينيين في قلبها قبل أن تحمله في بياناتها وخططها الدبلوماسية، هذا الوجود لم يكن موقفها طارئًا ولا موسميًا يرتبط بحرب أو أزمة أو عدوان، بل امتدادًا طبيعيًا لدورها التاريخي الذي لا يعرف الانقطاع، دور الدولة التي رأت في غزة امتدادًا لضميرها القومي، وفي الجوعى والجرحى والعالقين على المعابر إخوتها وأبناءها.
هكذا هو الحال منذ عقود ومصر هي الرئة التي تتنفس منها غزة في زمن الحصار، المعارك تتغير، والوجوه تتبدل، والظروف تتعقد، لكن بقيت القاهرة وحدها ثابتة على مبدأ إنساني لا يقبل المساومة.
في كل مرة تغلق فيها الأبواب، كانت مصر تفتح معبر رفح، ولو جزئيًا، لتصل قوافل الأدوية والغذاء، ولتمر سيارات الإسعاف المحملة بالجرحى إلى مستشفيات العريش والقاهرة، حيث يجد الفلسطيني وجهًا مصريًا يبتسم له دون شرط أو ثمن.
ولأن غزة محاصرة من كل الجهات، فإن معبر رفح أصبح شريان الحياة الوحيد، شريانًا تتحكم فيه السياسة أحيانًا، ويضغط عليه الآخرون لحساباتهم، لكن مصر ظلت تتعامل معه باعتباره مسؤولية أخلاقية قبل أن يكون مسؤولية سياسية، فقد حافظت على بقاءه مفتوحًا رغم المخاطر الأمنية في شمال سيناء، ورغم الضغوط الدولية والإقليمية التي حاولت في بعض المراحل أن تفرض قيودًا أو ترتيبات معينة، القاهرة رفضت أن يتحول المعبر إلى ورقة مساومة أو أداة ضغط، وأصرّت على أن يظل بوابة إنسانية قبل أي اعتبار آخر.
في خضم العدوان الأخير الذي عصف بغزة وتركها بين الركام، كانت مصر أول من تحرك، لا بخطابات ولا ببيانات شجب، بل بقوافل مساعدات ضخمة تحركت من الموانئ والمخازن إلى العريش في صمت منظم ودأب لا يعرف الكلل، آلاف الأطنان من المواد الغذائية، والأدوية، والمستشفيات الميدانية، والسيارات المجهزة، تدفقت عبر سيناء إلى حدود رفح، وعلى الطرف الآخر كان هناك من ينتظرها بلهفة، من الأمهات والأطفال الذين لم يجدوا في العالم سوى يد مصر تمتد إليهم بالرحمة.
لكن الدور المصري لم يتوقف عند مجرد نقل الإغاثة، بل تجاوز ذلك إلى تنظيم المشهد الإنساني برمّته، فالقاهرة فتحت أراضيها لإقامة مراكز استقبال وتخزين وإعادة توزيع للمساعدات القادمة من مختلف الدول، كي تضمن وصولها بشكل آمن ومنسق إلى القطاع، في العريش، تحولت المدينة الهادئة إلى خلية نحل ضخمة، مئات الشاحنات تصطف يوميًا في انتظار موافقات المرور، وجنود وضباط يعملون ليل نهار على تسهيل الإجراءات وتوفير الأمن للطرق الممتدة نحو رفح، لم يكن المشهد إداريًا بقدر ما كان ملحمة تضامن حقيقية، فيها الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص يعملون معًا تحت مظلة واحدة اسمها الإنسانية.
ومع كل هذا الجهد اللوجستي المعقد، حافظت مصر على خطابها السياسي المتوازن، فهي لم تسمح بأن يُختزل العمل الإنساني في ممرات سياسية ضيقة، رفضت محاولات بعض القوى الإقليمية أن تجعل من معبر رفح مدخلًا لمشاريع مشبوهة أو لتوطين اللاجئين في سيناء، كانت مصر واضحة في لاءاتها الثلاث لا للتهجير، لا للمساس بالسيادة الفلسطينية، لا لاستغلال المأساة لتحقيق مكاسب سياسية، وبهذه الثوابت صارت القاهرة درعًا يحمي غزة من السيناريوهات الأخطر التي كانت تلوح في الأفق.
وفي كل اجتماع دولي، كانت الدبلوماسية المصرية تعيد التذكير بأن المساعدات لا يمكن أن تكون ورقة تفاوض، وأن إطعام الجوعى وإنقاذ المصابين واجب لا ينتظر اتفاقات وقف النار، ومن هذا الموقف المبدئي نشأت الثقة التي جعلت من مصر نقطة التقاء لكل الأطراف المنظمات الدولية، الهلال الأحمر، الأمم المتحدة، وحتى الدول الكبرى التي أدركت أن لا أحد غيرها يستطيع إدارة هذا الملف بحكمة وواقعية.
لقد وضعت مصر قدراتها في خدمة هذا الهدف الإنساني، وفرت الممرات الآمنة لقوافل المساعدات، وسهلت مرور الفرق الطبية والإعلامية والإنسانية، ونسّقت مع الجانب الفلسطيني لتحديد الأولويات وفق ما يحتاجه الناس على الأرض، لم يكن الأمر سهلًا في ظل القصف المستمر وانهيار البنية التحتية في القطاع، لكن القاهرة ظلت تصرّ على استمرار تدفق المساعدات، حتى عندما تعرّضت القوافل للخطر أو تعطلت لساعات بسبب القصف الإسرائيلي على محيط المعبر، كانت فرق الإغاثة المصرية تعود إلى العمل في اليوم التالي وكأن شيئًا لم يحدث، لأن ما يحركها ليس أوامر بل شعور عميق بالمسؤولية.
وما يميز الدور المصري أنه لا يقف عند حدود الواجب الإنساني، بل يمتد إلى محاولة خلق بيئة سياسية تضمن استمرار هذا الواجب، في كل مرة تنجح مصر في التوصل إلى هدنة مؤقتة، فإنها تفعل ذلك ليس فقط من أجل وقف النار، بل لتفتح المجال أمام إدخال المزيد من المساعدات، ولتمنح السكان بعض الأمان الذي يسمح بعودة الخدمات الأساسية ولو جزئيًا. القاهرة تفهم أن الإغاثة بلا هدنة هي مجرد إسعاف فوق الرماد، وأن الحل الإنساني لا ينفصل عن الحل السياسي، لهذا فهي تتحرك على الجبهتين في وقت واحد، تُرسل القوافل وتُدير الوساطات، تُخاطب العالم بلغة القانون الدولي وتخاطب الضمير العربي بلغة التاريخ والمصير المشترك.
لقد شهد العالم بأسره هذا الدور خلال الشهور الماضية، حين كانت الطائرات المحملة بالمساعدات تهبط في مطار العريش، وحين اصطفت شاحنات طويلة تمتد كالسيل عبر الصحراء إلى بوابة رفح، مشاهد وثقتها عدسات العالم، لكنها لم تستطع أن تلتقط المعنى الأعمق لها، وهو أن مصر رغم كل ما تواجهه من تحديات داخلية واقتصادية، لم تتخلّ عن دورها، ولم تغلق قلبها ولا حدودها أمام شعب يصرخ من تحت القصف، فهنا تتجلى قوة الدولة المصرية الحقيقية، في قدرتها على الجمع بين الأمن والسيادة من جهة، والرحمة والمسؤولية من جهة أخرى.
وفي الأرقام تكمن الحقيقة الصريحة التي لا يمكن تجنبها أو تجاهلها فقد أعلنت مصر أنها سلمت أكثر من 533 ألف طن من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة منذ بداية أغسطس 2025 تقريبًا، تحت إشراف وزارة التضامن الاجتماعي، من خلال آليات القوافل الرسمية، ومن جهة أخرى، أفادت التقارير بأن أكثر من 9،000 شاحنة مساعدات عبرت إلى غزة منذ بداية الهدنة في فبراير 2025، في إطار ما أفادت به تقارير من وزارة الصحة المصرية بأن نحو 103،400 فلسطينيًا قد عولجوا في المستشفيات المصرية منذ اندلاع الحرب.
هذه الأرقام لا تعني مجرد حجم عمل، بل كَشفٌ واضحُ لمدى تشبّث مصر بدورها على الأرض، وتحملها لمسؤولية كبيرة تجاه جيرانها الفلسطينيين، وفيها رسالة للعالم أن الحدود الجغرافية لا تفصل بين ضمائر الشعوب حين يدق الزمان ناقوس الكارثة.
ولم يكن هذا العمل الإنساني مجرد رد فعل، بل نتاج رؤية راسخة لدى القيادة المصرية ترى في دعم غزة واجبًا وطنيًا وإنسانيًا، الرئيس عبدالفتاح السيسي أكد في أكثر من مناسبة أن معبر رفح سيبقى مفتوحًا للمساعدات مهما كانت الظروف، وأن مصر لن تسمح بتجويع الفلسطينيين أو تهجيرهم من أرضهم، هذا الموقف لم يكن خطابًا عاطفيًا، بل سياسة تنفيذية انعكست في توجيه جميع أجهزة الدولة لتوفير الدعم الكامل، من الجيش إلى وزارة الصحة والهلال الأحمر، فالجميع شارك في المهمة، والجميع شعر أن ما يجري في غزة يعني مصر كما يعني أهل القطاع أنفسهم.
ورغم أن بعض الأصوات حاولت بين الحين والآخر أن تشكك في جدوى هذا الدور أو تحاول تفسيره في سياقات سياسية، إلا أن الواقع على الأرض كان أقوى من كل التأويلات، الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية الكبرى لم تجد بديلًا عن مصر لإيصال المساعدات، والعالم كله اعترف بأن أي توقف في عمل معبر رفح يعني كارثة إنسانية فورية، ولهذا صارت القاهرة مركز الثقل في كل مباحثات الإغاثة، وموضع الثقة في إدارة الملفات المعقدة التي تجمع بين الأمن والسياسة والإنسانية.

ads
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق