غزة.. اتفاق مهدد وحرب لا تنتهي

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الأربعاء 22/أكتوبر/2025 - 01:08 م 10/22/2025 1:08:42 PM

مؤتمر شرم الشيخ الأخير حول غزة لم يكن مجرد محطة سياسية عابرة، المؤتمر اختبار حقيقي لإمكانية أن تعود المنطقة إلى منطق التسويات بعد الدم والدمار، في المؤتمر جاءت أطراف عربية ودولية برعاية مصرية مكثفة، وقد نجح في تحقيق ما بدا مستحيلا، عاد الرهائن الإسرائيليين ضمن صفقة إنسانية معقدة، وتم وقف إطلاق نار مؤقت، وكذلك تم السماح بمرور المساعدات وإجلاء الجرحى.
المؤتمر أعطى العالم نفَسا قصيرا من الأمل في أن تلتقط غزة أنفاسها، لكن هذا الأمل سرعان ما تلاشى مع أول منعطف، إذ عادت إسرائيل إلى القصف المتقطع مدعية أن حماس خرقت اتفاق التهدئة، لتتبدد الهدنة كما يتبدد السراب في صحراء السياسة الشرق أوسطية، ما حدث بعد المؤتمر يؤكد أن الأزمة في غزة أعمق من أن يتم حلها بصفقة مؤقتة أو تفاهم إنساني، إسرائيل لم تتخل يوما عن هدفها المعلن وهو تحطيم بنية حماس وإنهاء سيطرتها على القطاع، وحماس من جانبها تدرك أن أي الاستسلام الكامل لشروط تل أبيب يعني نهايتها السياسية والتنظيمية.
الولايات المتحدة بدت في مؤتمر شرم الشيخ وكأنها تحاول التوفيق بين صورتين متناقضتين صورة الراعي الذي يريد وقف الحرب لأسباب إنسانية وضغوط داخلية متزايدة، وصورة الحليف الاستراتيجي الذي لا يستطيع التخلي عن إسرائيل. 
أما مصر، فكانت وما زالت الطرف الأكثر حضورا وتأثيرا في هذا الملف. شرم الشيخ لم تكن مجرد مكانا للمؤتمر، بل كانت رمزا للدور المصري الذي حافظ على خيوط التواصل بين كل الأطراف، القاهرة تدرك أن انفجار الأوضاع في غزة يعني فوضى أمنية على حدودها الشرقية، وضغوطا إنسانية هائلة لا يمكن تحملها، لذلك تحاول مصر أن تبقي على الحد الأدنى من التفاهمات بين حماس وإسرائيل، وأن تدفع المجتمع الدولي نحو إعادة الإعمار وإحياء مسار سياسي يضمن حلا دائما، لا مجرد هدنة مؤقتة، لكن هذا المسار يبدو معقدا في ظل تصلب المواقف الإسرائيلية، وانقسام الساحة الفلسطينية، وتراجع الحماس الدولي لأي عملية سلام حقيقية.
تواجه أزمة إنسانية خانقة بين صفوف سكان غزة الذين ضاقت بهم الحياة، هذا الوضع قد يدفعها إلى إعادة النظر في أولوياتها، الحديث عن فصائل داخل غزة رافضة لهيمنة حماس بدأ يتسع مع طول أمد الحرب وازدياد المعاناة، فهناك تيارات مدنية وشبابية ترى أن سيطرة حماس المطلقة أضرت بالمجتمع، وأنها جرّت القطاع إلى مواجهات لا طاقة له بها. بعض هذه ينشأ من داخل الأحياء المدمرة كصرخة احتجاج أكثر منه تنظيما سياسيا، ومع ذلك، فإن أي صراع داخلي فلسطيني سيزيد من مأساة القطاع، ويفتح الباب أمام تدخلات إقليمية معقدة قد تجعل من غزة ساحة تصفية حسابات بين أطراف عربية وإقليمية متنافسة، إسرائيل نفسها تراهن على هذه الانقسامات، فهي ترى أن أفضل وسيلة لإضعاف المقاومة ليست القنابل وحدها، بل تفكيك النسيج الداخلي الذي يمدها بالقوة والشرعية.
لكن ما يغيب عن حسابات تل أبيب أن غزة، رغم كل ما لحق بها، لم تفقد إرادة البقاء، فكل جولة قتال تترك جرحا جديدا، لكنها تخلق في الوقت نفسه وعيا متزايدا بضرورة الوحدة الوطنية، كثير من الأصوات الفلسطينية، حتى تلك التي تختلف مع حماس فكريا، تدرك أن إسقاط الحركة بالقوة الإسرائيلية لن يعني سوى تسليم القطاع للفوضى أو لحكم عسكري مباشر، لذلك تتصاعد الدعوات إلى تشكيل قيادة وطنية موحدة تدير القطاع مؤقتا وتفتح الباب أمام مصالحة شاملة بين الفصائل، وهو ما تحاول القاهرة والأمم المتحدة تشجيعه كخيار واقعي للخروج من المأزق.
الملف الإنساني يظل الأكثر إلحاحا في كل هذه المعادلات، فغزة اليوم مدينة شبه مدمرة، أكثر من 70% من سكانها بلا مأوى، والمستشفيات تعمل فوق طاقتها، والمياه والكهرباء في حدها الأدنى، هذه المأساة تضغط على كل الأطراف وتجعل استمرار المعاناة عبثا أخلاقيا وسياسيا، 
في ظل هذه اللوحة القاتمة، يبقى السؤال ما المصير الذي ينتظر غزة؟ هل ستدخل مرحلة “اللاحرب واللاسلم” إلى أن تتغير الظروف الإقليمية؟ أم أن انفجارا جديدا سيعيد كل شيء إلى نقطة الصفر؟ الأرجح أن القطاع سيظل يعيش حالة التوتر المزمن، حيث تتعايش فترات الهدوء القصير مع جولات التصعيد، ومع كل دورة عنف جديدة، يزداد عدد الضحايا ويتقلص الأمل في مستقبل آمن.
الرهان اليوم ليس فقط على وقف النار، بل على وقف الدائرة الجهنمية التي تحوّل كل اتفاق إلى استراحة محارب، ولعل الدرس الأهم من مؤتمر شرم الشيخ أن الحلول الجزئية لم تعد كافية، وأن العالم مطالب بخطة شاملة تعالج جذور الصراع لا أعراضه.

ads
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق