يبدو أن حلم تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر، ومن الضفة الغربية إلى الأردن مازال يراود خيال الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب.. وإن كان قد تراجع عما سبق وقاله في فبراير الماضي، من أن (الفلسطينيون سيعيشون بأمان في مكان آخر غير غزة، وأدرك أننا قادرون على التوصل إلى حل.. أعتقد أنه ستكون هناك قطع من الأرض في الأردن ومصر يمكن أن يعيش فيها الفلسطينيون.. أعتقد بنسبة 99%، أننا سنتمكن من إنجاز شيء مع مصر أيضًا)، بفضل الموقف المصري القوي، الذي أعلن صراحة، أنه لا تهجير للفلسطينيين إلى مصر ولا إلى غيرها، بل إن أهل القطاع المحتل وإخوانهم سيعيشةت فوق أرضهم، وأن إعادة الإعمار يجب أن تبدأ، فور إعلان وقف الحرب في غزة.
عاد ترامب إلى التلميح، خلال لقائه مع قناة Fox News الأمريكية، أمس الإثنين، إلى مسألة التهجير بالقول، إن من حق أهل غزة العيش في أمان واطمئنان، وفي مصر مساخات واسعة، وكذلك في الأردن!!.. وقبله، وخلال اللقاء الكامل الذي بثته شبكة CBS مع جاريد كوشنر، صهر ترامب، والمبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، في برنامج (60 دقيقة)، تطرق كوشنر إلى الوضع في القطاع، بقوله، إن (غزة تبدو وكأن قنبلة نووية انفجرت هناك.. هذا محزن، حين التفكير أنه ليس لديهم مكان يذهبون إليه).. وسُئل الاثنان إذا كان ما يحدث في غزة هو إبادة جماعية، فأجابا بالإجماع، (لا.. هذه حرب)!!.. بينما قال ويتكوف، (أرسلنا رسالة إلى حماس عبر الوسطاء، نحن نحاول منع إسرائيل من التدخل، وخلق منطقة آمنة للفلسطينيين الذين يشعرون بالتهديد خلف الخط الأصفر.. سمعنا من الوسطاء أن حماس لا تسيطر على جميع المناطق، وأن هناك فوضى لأن حماس ضعيفة ويائسة).. وكل ذلك، يشير بوضوح، أن فكرة التهجير لاتزال قائمة، في عقل الإدارة الأمريكية!!.
في السابع من أغسطس الماضي، أجرى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مقابلةً على نفس شبكة فوكس نيوز، أكد بكلماته، أن إسرائيل تنوي احتلال القطاع بأكمله: (نعتزم السيطرة على كامل أراضي قطاع غزة، بهدف ضمان أمننا، والقضاء على حماس، وتحرير سكان غزة منها!!.. نعتزم نقل السيطرة على القطاع إلى حكومة مدنية لا تضم حماس أو أي طرف آخر يسعى إلى تدمير إسرائيل.. هذا ما نريده، نريد تحرير أنفسنا وشعب غزة من حماس).. وفي كل وقت، يؤكد الرئيس عبد الفتاح السيسي، أنه (لا تهجير للفلسطينيين في قطاع غزة إلى مصر).. وموقفها (حاسم في رفض مخططات تهجير الفلسطينيين، سواء من غزة أو الضفة لمصر والأردن).. كما شدد على أن التهجير خط أحمر، (لم ولن نقبل أو نسمح به).. وحذرت مصر مرارًا، منذ بداية الأزمة في قطاع غزة عقب عملية طوفان الأقصى، في السابع من أكتوبر 2023، من خطورة دفع سكان غزة إلى مغادرة أراضيهم نحو سيناء.. وحذر الرئيس السيسي من خطورة المساس بالأمن القومي المصري، مؤكدًا أنه (لا تهاون في حماية الأمن القومي لمصر.. فمصر دولة قوية ولا تُمس).
نفس الموقف ردده محافظ شمال سيناء، اللواء خالد مجاور، الذي أكد أن الرد المصري سيكون مفاجئًا للعالم كلهـ إذا فكر أي شخص بالاقتراب من الحدود المصرية.. وأشار مجاور خلال لقاء بالقرب من معبر رفح، إلى أن مصر ليست ضعيفة، وأنه يعلم ما يقوله تمامًا حيث خدم في الجيش المصري لمدة واحد وأربعين عامًا.. ونوه بأن الجميع يعلم قوة مصرـ لذلك لا يجرؤ أي أحد على الاقتراب أو التفكير في ذلك، (هناك تحولًا واضحًا في الموقف الدولي والإقليمي بشأن القضية الفلسطينية، وقد نجحت الدولة المصرية في فرض رؤيتها القائمة على دعم الشعب الفلسطيني ورفض التهجير القسري.. وفرق كبير بين ما قدمته مصر وما فعلته إسرائيل.. محدش في العالم كله يزايد على دور مصر، لا إنسانيًا ولا سياسيًا).. وقد لاقت تصريحات المحافظ، الذي عمل سابقًا قائدًا للجيش الثاني الميداني، ورئيسًا للاستخبارات العسكرية، اهتمامًا إسرائيليًا، ووصفها موقع Srugim العبري، بأنها تمثل (تهديدًا مباشرًا)، و(جبهة جديدة) ضد إسرائيل مع استمرار حربها على قطاع غزة.
لقد سبق أن طرح السيناتور الجمهوري، ليندسي جراهام، سيناريو (طوكيو وبرلين خلال نهاية الحرب العالمية الثانية)، لإنهاء الحرب في قطاع غزة، معتقدًا أنه (لا توجد وسيلة آمنة) أمام إسرائيل للتفاوض.. قال جراهام، في مقابلة مع برنامج Meet The Press مع شبكة NBC News، إنه يعتقد أنه (لا توجد وسيلة آمنة أمام إسرائيل للتفاوض على إنهاء الحرب مع حركة حماس).. وأضاف، (إسرائيل ستتولى السيطرة على غزة.. سيفعلون في القطاع ما فعلناه في طوكيو وبرلين، الاستيلاء على المكان بالقوة والبدء من جديد، وتقديم مستقبل أفضل للفلسطينيين)، مقارنًا ذلك بإجراءات الولايات المتحدة خلال نهاية الحرب العالمية الثانية في اليابان وألمانيا.. وذكر أنه (يعتقد أن إسرائيل خلصت إلى أنها لا تستطيع تحقيق هدف إنهاء الحرب مع حماس بطريقة تضمن أمان إسرائيل)، بل وبعتقد أن (الرئيس ترامب توصل إلى هذا الاستنتاج، وأنا بالتأكيد كذلك، ولا توجد طريقة يمكنك بها التفاوض على نهاية هذه الحرب مع حماس).
●●●
بالنظر إلى كل ما سبق، وإلى التصرفات الحمقاء، والخروفات التي مازالت إسرائيل ترتكبها في غزة، فإذا صمد وقف إطلاق النار الحالي في القطاع، فسيكون ذلك بمثابة النهاية الحتمية لحرب وحشية لا يمكن تبريرها.. لكن الصورة على المدى الأبعد، وما إذا كان من الممكن منع اندلاع حرب مميتة ثانية، مسألة أخرى.. أحد العوامل ـ ليس العامل الوحيد، ولكنه عامل رئيسي ـ هو مدى إمكانية إقناع الإسرائيليين بضرورة منح مفاوضات السلام فرصة حقيقية.
أثناء عمله كمسئول رفيع المستوى في إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن، على ملف إسرائيل وفلسطين، ضغط جولدنبرج دون جدوى على البيت الأبيض، لممارسة ضغط أشد على الإسرائيليين، سعيًا للتوصل إلى وقف إطلاق النار.. والآن، وبعد أن فعلت إدارة ترامب ذلك وضمنت اتفاقًا لجهودها، يرى جولدنبرج إمكانيات لتغيير النهج الإسرائيلي الأعمق تجاه الصراع، إما للأفضل أو للأسوأ.
يشبه هذا السيناريو المتفائل إلى حد كبير ما حدث في أعقاب حرب أكتوبر عام ١٩٧٣، حين فوجئت إسرائيل بغزو مباغت من القوات المصرية والسورية.. صدم نجاح الهجوم المصري الرأي العام الإسرائيلي، الذي كان قد ازداد ثقته المفرطة بقوته، مما مهد الطريق لقرار رئيس الوزراء ـ وقتها ـ مناحيم بيجن، بتوقيع معاهدة سلام مع الرئيس أنور السادات عام ١٩٧٨.. كما يُشبه هذا السيناريو المتشائم، ما حدث في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهي الجولة الأكثر دموية في القتال الإسرائيلي الفلسطيني قبل الحرب الحالية.. دفع هذا الصراع، الذي قُتل فيه عدد كبير من المدنيين الإسرائيليين في هجمات داخل حدود إسرائيل، العديد من الإسرائيليين إلى استنتاج استحالة تحقيق السلام عن طريق التفاوض، مما أدى إلى تحول سياسي نحو اليمين، أدى إلى تعميق الاحتلال في الضفة الغربية وسلوك إسرائيل الوحشي الصادم خلال حرب غزة الحالية.
إذن، أيهما أرجح: اعتراف إسرائيلي بضرورة السلام، أم تعزيز منطق الحرب الدائمة؟.. جولدنبرج غير متأكد.. لكنه واثق من أن صراعًا يتشكل، الآن قد يُرجّح كفة النتيجة.. وقد قال جولدنبرج لزاك بوشامب، محرر موقع Yahoo news، (الأمر الأهم، هو الانتخابات في إسرائيل العام المقبل.. إنها حجر الزاوية في كل هذا).. إن اتفاق ترامب لوقف إطلاق النار هو، جزئيًا، اتفاق على اتخاذ قرار عدم اتخاذ قرار.. فرغم أن الاتفاق يُفترض أنه اتفاق شامل، إلا أن الطرفين لم يتفقا إلا على بنوده قصيرة الأجل، مثل تبادل الأسرى والمفقودين، بالإضافة إلى الانسحاب الإسرائيلي من معظم غزة.. ولا توجد خطوات محددة مُتفق عليها لتنفيذ بنوده طويلة الأجل، مثل نزع سلاح حماس أو نشر قوة حفظ سلام دولية في غزة.
تحويل هذه الأفكار، من طموح إلى واقع، سيتطلب تنازلات صعبة، وهناك أسباب حقيقية للتشكيك في جميع الأطراف المعنية.. فالسياسة الخارجية للرئيس دونالد ترامب لا تُعرف بالمتابعة الدقيقة أو الاهتمام بالتفاصيل.. في غضون ذلك، تُشير موجة القتل التي شنتها حماس بعد وقف إطلاق النار، والتي أعدمت فيها علنًا بعض العصايات من الفلسطينيين في غزة، إلى أنها غير مهتمة بالتخلي عن السلاح أو السلطة.. وعلى الجانب الإسرائيلي، يمكن تلخيص المشكلة الأكبر في أربع كلمات: رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو!!.
خلال تواجده في السلطة لخمسة عشر عامًا من الأعوام الستة عشر الماضية، أبدى نتنياهو عداءً متزايدًا لفكرة إجراء مفاوضات سلام جادة.. ويعتمد مستقبله السياسي على تحالفه مع فصائل اليمين المتطرف، التي تعتقد أن أكبر خطأ ارتكبته إسرائيل في غزة، هو (عدم استخدام العنف بما يكفي)!!.. وما دام نتنياهو في السلطة، فمن شبه المؤكد أنه سيعمل على تخريب أي محاولة لتنفيذ البند التاسع عشر والأكثر طموحًا في الاتفاق: الأمل في خلق (مسار موثوق به نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما نعترف به كتطلعات الشعب الفلسطيني).. وإذا كان سلوك نتنياهو السابق دليلًا، فسوف يعمل بإصرار على تخريب هذا العنصر من الاتفاق، محاولًا إلقاء اللوم على حماس في عرقلته.. يقول جولدنبرج، (إنه رجلٌ رفض، لعشرين عامًا، المخاطرةَ مطلقًا بتغيير حياة السكان إلى الأفضل.. بل إنه، بدلًا من ذلك، دأب على استغلال أسوأ غرائزهم ومخاوفهم).
في الممارسة العملية، يبدو هذا مشابهًا إلى حد كبير للقرار الذي اتخذته إسرائيل يوم الثلاثاء الماضي، والذي تم التراجع عنه منذ ذلك الحين، والذي قضى بخفض كمية المساعدات المتدفقة إلى غزة إلى نصف الكميات المتفق عليها.. كان السبب المُعلن للتعليق، هو عدم التزام حماس باتفاقها بتسليم جثث الرهائن الإسرائيليين المتوفين.. وسواء كان هذا صحيحًا أم لا ـ فمن المحتمل، كما تقول حماس، أنها تواجه صعوبة في العثور على الرفات ـ فلم تكن هناك حاجة لرد إسرائيلي بهذه القسوة.. والتفسير الأكثر منطقية لقراره، هو أن نتنياهو وحلفاءه يريدون فشل الاتفاق، لكنهم لا يريدون تحمّل مسئولية الانسحاب منه دون مبرر.. لذا، فهم على استعداد لاتخاذ خطوات عدائية لزعزعة استقراره.. وفي مرحلة ما، من المرجح أن تنجح هذه الجهود.
هذا لا يعني أنهم يريدون استئناف القتال غدًا.. استئناف الحرب سيكون إهانة سافرة لترامب، الذي يُراهن بسمعته بشكلٍ متزايد على تحقيق (السلام) في الشرق الأوسط.. هناك احتمال كبير جدًا، كما يقول جولدنبرج، أن (القتال الرئيسي قد انتهى)، مهما كلف الأمر.. لكن السؤال لا يقتصر على ما إذا كانت القنابل ستبدأ بالتساقط في المستقبل القريب، بل يتعلق أيضًا بما إذا كان هناك ما يُتخذ لمنع اندلاع حرب أخرى بعد سنوات.. وذلك يتطلب معالجة السبب الكامن وراء الصراع بين الجانبين: غياب تسوية تفاوضية شاملة، تُعالج المخاوف والتطلعات المشروعة للشعبين.. فبدون ذلك، لا مفر من جولة أخرى من القتال الشرس.
إذا صحّ هذا المنطق، فعلى نتنياهو أن يترك منصبه حتى يُمهّد وقف إطلاق النار هذا الطريق لسلام حقيقي.. ولهذا السبب، من المتوقع أن تكون الانتخابات الإسرائيلية المقبلة ـ المقرر إجراؤها في أكتوبر 2026، مع إمكانية الدعوة إليها قبل ذلك ـ بالغة الأهمية.. وقد كتب مايكل كوبلو، الخبير في مركز أبحاث منتدى السياسات الإسرائيلي، أن (الانتخابات المقبلة ستكون الأكثر أهمية في تاريخ إسرائيل).. والنبأ السار، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في السلام الدائم، هو أن نتنياهو من المرجح أن يخسر، علمًا بأنه (لم يحدث خلال العام ونصف العام الماضيين، أي تغيير جوهري في قوة نتنياهو في استطلاعات الرأي).
أظهرت استطلاعات الرأي المبكرة، التي أُجريت بعد وقف إطلاق النار فوز نتنياهو وشركائه في الائتلاف اليميني المتطرف بثمانية وأربعين مقعدًا من أصل مائة وعشرين مقعدًا في الكنيست.. ويُعدّ هذا تحسنًا طفيفًا مقارنةً بأرقامهم السابقة، ولكنه لا يزال أقل بكثير من الواحد وستين مقعدًا اللازمة لتشكيل ائتلاف حاكم، وهو عجزٌ استمرّ بشكل ملحوظ على مر الزمن.. تقول داليا شيندلين، وهي من أبرز الباحثين في استطلاعات الرأي في إسرائيل، (لم يحدث أي شيء تقريبًا خلال العام ونصف العام الماضيين تغييرًا جذريًا في قوة نتنياهو في استطلاعات الرأي).. وبالطبع، تُحذّر شيندلين من أن هذه الأرقام قابلة للتغيير.. من الشائع في صحافة الشرق الأوسط وصف نتنياهو بأنه ناجٍ سياسي بارع، لكن هذا الوصف مُجرّد تعبير مُبتذل لسبب وجيه: لقد استطاع التشبث بالسلطة لفترة طويلة، بعد أن أعلن العديد من المراقبين أنه محكوم عليه بالزوال.
ربما يُغيّر الفرح السائد في إسرائيل بعودة الرهائن الأمور؛ فلم نرَ بعدُ بيانات موثوقة لاستطلاعات الرأي منذ إطلاق سراحهم.. لكنّ ثبات الأرقام على المدى الطويل ملفتٌ للنظر، لدرجة أنه يُشير إلى احتمال وجود مشاكل أعمق وأصعب حلًا لرئيس الوزراء.. لقد أثار رفض نتنياهو المستمرّ تحمّل أيّ مسئولية عن هجوم السابع من أكتوبر، أو حتى تشكيل لجنة تحقيق فعلية للتحقيق في المسئولية، غضب الإسرائيليين الذين ما زالوا يعيشون صدمة أحداث ذلك اليوم.. إضافةً إلى ذلك، يعتقد معظم الإسرائيليين أن نتنياهو يُطيل أمد الحرب لأسباب سياسية، مما يوحي بأن وقف إطلاق النار لم يكن إنجازًا، بل كان أمرًا فُرض عليه.. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن نتنياهو مُدانٌ بجريمة شنّ هجوم على استقلال القضاء الإسرائيلي قبل الحرب، وهو هجومٌ أثار أكبر حركة احتجاج في تاريخ البلاد.. ورغم مهارات نتنياهو المزعومة في البقاء على قيد الحياة، فإن الاحتمالات هذه المرة ضده إلى حد كبير.
لكن هزيمة نتنياهو لا تضمن لإسرائيل السير على طريق السلام.. إنها شرط ضروري ـ ما دام في السلطة، فمن المرجح استحالة تحقيق سلام دائم ـ لكنها ليست كافية.. لحل الجانب الإسرائيلي من معادلة السلام، لا بد من معالجة شعور الجمهور بالتشاؤم بعد السابع من أكتوبر، إزاء احتمالات أي اتفاق حقيقي.. وهذا يتطلب قيادة مستعدة لشرح وجهة نظرها لهم.. تقول شيندلين، (خلال التصعيدات العنيفة، نادرًا ما رأيتُ الجمهور الإسرائيلي يسبق قادته في اتخاذ موقف أكثر اعتدالًا).. وتشير إلى أن اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع مصر، عام ١٩٧٨، قوبلت في البداية بتشكك من الجمهور الإسرائيلي.. ولكن بمجرد وجود (زعيم منتخب شرعيًا يدافع عن القضية.. غيّر الناس آراءهم، وفي غضون بضعة أشهر أيدوا الاتفاقية بأغلبية ساحقة).. ولا أحد يعلم، ما إذا كانت مثل هذه القيادة موجودة اليوم!!.
تتكون معارضة نتنياهو من مجموعة أحزاب تغطي نطاقًا أيديولوجيًا واسعًا.. ويضم قادتها مستوطنين من اليمين المتطرف، مثل نفتالي بينيت، وصقورًا من يمين الوسط، مثل بيني جانتس، وليبراليين صهاينة، مثل يائير جولان، وحتى إسلاميين عرب، مثل منصور عباس.. لا يجمع هذه الأحزاب سوى نفور عميق من نتنياهو، وهذا يجعل أي ائتلاف تُشكّله عرضة للانهيار.. وقد وصلت هذه المعارضة القوية إلى السلطة عام ٢٠٢١، وكان بينيت أول رئيس وزراء لها، لكنها سقطت تحت وطأة تناقضاتها، ممهدة الطريق لعودة نتنياهو إلى السلطة من جديد.
في الوقت الحالي، ليس هناك أدنى فكرة عن المجموعات الفرعية لهذه الأحزاب التي ستحقق نتائج أفضل، وأيها ستحقق نتائج أسوأ.. سيعتمد الكثير، ليس فقط على هزيمة نتنياهو، بل أيضًا على أي الأحزاب المختلفة الخارجة عن الحكومة ستحقق نتائج أفضل، ونوع الائتلاف الحاكم الذي ستفرزه الانتخابات.. على سبيل المثال، من غير المرجح أن تنخرط حكومة بقيادة بينيت في مفاوضات جادة، مقارنةً بحكومة بقيادة الوسطي يائير لابيد.. وباختصار، من المحتمل جدًا أن تنهار هذا الهدنة الهشة في نهاية المطاف، حتى لو مُني نتنياهو بالهزيمة.. لكن إذا ظل في السلطة، فإن هذه الاحتمالات تُقارب اليقين.. إذا أراد ترامب، أو أي شخص آخر، أن يُمهّد هذا الاتفاق الطريق للسلام، فعليه البدء بإزالة نتنياهو من المعادلة.. يقول جولدنبرج، (هناك العديد من النقاط المحورية، لكن النقطة الأولى هي هو.. أي نتنياهو!!).
●●●
في رأي محللين سياسيين، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، صار عبئُا في دولة الاحتلال حتى على حزبه الليكود، في ظل تزايد الضغوط الأمريكية غير المباشرة لتغييره، نظرا لفشله في إدارة الحرب على قطاع غزة، وتدهور علاقاته مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، وإن بدا على السطح غير ذلك.. قد يكون الخلاف الأمريكي ـ الإسرائيلي مهم في هذه اللحظة، لكنه لن يغير في الأمد المتوسط طبيعة دعم واشنطن لإسرائيل، إلا أنه قد يدفع نحو البحث عن مخرج لأزمة نتنياهو، الذي أصبح عبئًا حتى على حزبه.. ونتنياهو يدرك حجم الضغوط عليه، لذا يسعى إلى الخروج بأقل قدر من الخسائر بمعاودة القصف على غزة، لتقديمه إنجازًا شخصيًا، ودرءًا لاتهامات الخضوع للضغوط الأمريكية، خصوصًا في ظل نرجسيته التي تجعله يتشبث بموقعه مهما كانت التكاليف.
نتنياهو يدرك، أنه يواجه لحظة حرجة، وأن بقاءه في الحكم لم يعد مضمونًا، خصوصًا في ظل ضغوط من داخل حزب الليكود نفسه، حيث بدأت تبرز أصوات تطالب بالتفكير في مرحلة ما بعد نتنياهو، وتنتقد تحوّل الحزب إلى رهينة لعائلة واحدة، مع أن نتنياهو أعلن خوضه للانتخابات القادمة، وقال بثقى كبيرة، أنه سيفوز فيها!!.. لكن أزمة نتنياهو لا تكمن في واشنطن أو غزة، بل داخل الليكود ذاته، بل إن هناك مقارنات تُطرح اليوم، بين وضعه الحالي وما واجهه قادة سابقون، مثل أرييل شارون ومناحيم بيجن وإسحاق شامير، حين أُبعدوا عن قيادة الحزب بعد تحولات مشابهة.. وهناك مقالات وتحركات داخلية في الليكود تعكس قناعة بأن استمراره في الزعامة سيضعف الحزب ويزيد من أعبائه، خصوصًا في ظل الفضائح والاتهامات بالفساد التي تلاحق مسيرته السياسية.. لقد خذل نتنياهو ترامب مرارًا، وعجز عن تحقيق أي اختراق في ملف غزة، رغم منحه فرصة طويلة لذلك، وهو ما جعل ترامب يشعر بأن استمرار دعم نتنياهو يسيء إلى صورته هو شخصيًا ويضعف أوراقه أمام حلفائه في الإقليم.
ومع ذلك، لاتزال واشنطن تملك أوراق ضغط كبيرة لم تستخدمها بعد، من الدعم العسكري إلى الغطاء الدبلوماسي، في ظل أن أصبحت قدرة نتنياهو على قيادة ملف التطبيع مع الدول العربية محل شك، مع نفور متزايد منه داخل وخارج إسرائيل.. لذلك، فالحذر كبير من أن نتنياهو قد يُقدم على معاودة التصعيد بشدة في غزة، هربًا من الضغط المتزايد مع أن التكلفة الإنسانية في غزة وصلت حدًا غير مسبوق، وأن بقاء الاحتلال على هذا النحو يعكس لحظة قلق إستراتيجية داخل المؤسسة الإسرائيلية.. لذلك، قد يتحرك ترامب نفسه، بمفاجآت تقلب الطاولة، خصوصًا أنه لم يعد يرى في إسرائيل ورقة رابحة كما في السابق، ما يدفعه إلى تعزيز علاقاته بدول الإقليم، من بوابة الملفات الإنسانية والصفقات، وليس من خلال تبني موقف نتنياهو المتصلب، خصوصًا وأن واشنطن ترى أن التخلص من نتنياهو قد يفتح الباب لمرحلة جديدة في العلاقة مع الشرق الأوسط، في ظل سلوك متزن من عواصم عربية، ترى فيها واشنطن شركاء أكثر استقرارًا من الحكومة الإسرائيلية الحالية.
●●●
■■ وبعد..
فحتى الإسرائيليون قلقون، وخصوصًا اليهود.. مرّ عامان، منذ أن اضطرت إسرائيل لخوض الحرب إثر هجوم السابع من أكتوبر 2023.. تاريخيًا، لا تُعدّ سنتان من الحرب فترة طويلة.. فالحرب بين روسيا وأوكرانيا أطول، وحرب فيتنام أعمق، والحربان العالميتان أوسع.. جميعها استمرت لفترة أطول من حرب السنتين.. لكن في إسرائيل، تُعدّ الحرب التي تستمر عامين طويلة لسببين على الأقل.. أولًا، إنها أطول من أيٍّ من سابقاتها.. ثانيًا، إنها انحراف واضح عن الاستراتيجية الوطنية الإسرائيلية، التي تسعى إلى حروب قصيرة وحاسمة.. فما الذي يقلق الإسرائيليين؟.
إنهم قلقون من احتمال أن يكون الرئيس دونالد ترامب يعدُ بأكثر مما يستطيع تحقيقه.. إنهم قلقون من أن يكون رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، متفائلًا بشكل مفرط عندما قال مؤخرًا إن (الانفراج وشيك).. إنهم قلقون من أن تنسحب حماس من الاتفاق، أو أن تتمكن من استغلاله لصالحها.. قطر تُحسن معاملتها مع ترامب أكثر من تل أبيب.. من أن الأمن لن يكون مُتاحًا.. من أن تُصرّ الحكومة الإسرائيلية على تفصيل صغير يُدمر أي فرصة لإنهاء الحرب.. من أن الطريق إلى الدولة الفلسطينية قد فُتح.. على مدار العامين الماضيين، خاب أمل الإسرائيليين مرارًا وتكرارًا من وعود نهاية وشيكة للحرب.. توقع ترامب (انفراجًا) أكثر من مرة، وأعلن نتنياهو أكثر من مرة أن (النصر وشيك).. والآن، ومع وقف الحرب الهش في غزة، مازال الجميع يراوح مكانه، في انتظار ما ستكشف عنه الأيام القادمة من مفاجآت!!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.
0 تعليق