من يملك إعلان النهاية: الموت ليس قرارًا إداريًا (2)

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الأحد 19/أكتوبر/2025 - 12:08 ص 10/19/2025 12:08:26 AM

بعد أن طرحنا في المقال الأول سؤال: من يملك إعلان النهاية؟، كان لا بد أن نعود خطوة إلى الوراء لنسأل: ما الحياة أصلًا؟ وما الموت؟
هل هما حالتان بيولوجيتان بحتتان؟ أم ظاهرتان تتجاوزان المختبر إلى ميتافيزيقا الروح والإدراك والإرادة؟
رحلة الإنسان في فهم الحياة والموت لم تكن علمية فحسب، بل كانت دائمًا مرآة لفلسفته في الوجود ذاته، وفي أقدم الحضارات، لم يكن الموت حالة طبية بل انتقالًا كونيًا.
المصريون القدماء رأوا أن القوة الحيوية تغادر الجسد لتسكن الأبد، واليونانيون ربطوا الحياة بـالنَفَس، ومن هنا جاء لفظ Respiration بمعنى التنفس كمرادف للحياة، أما أفلاطون فاعتبر الروح هي المبدأ المحرك للجسد، فإذا غادرته انتهى الوجود، ولهذا كان التنفس أول علامة حياة وآخر ما يُراقب عند الموت.
حتى القرن السابع عشر، ظلّ القلب هو مركز الحياة، وأن توقفه هو الموت، وأنه مصدر الوعي والشعور، فالقلب عند أرسطو هو موضع النفس والعقل والعاطفة، لكن تخطيط وليام هارفي للدورة الدموية عام 1628، وأبحاثه عن كيفية عمل القلب ودوران الدم في الأوعية، واكتشاف الحقيقة المهمة، ألا وهي أن للأوردة صمامات تسمح بنقل الدم في اتجاه واحد فقط ولا تسمح له بالرجوع في الاتجاه المعاكس.  نقل الإنسان من رمزية القلب إلى فيزيولوجية الدم، وبدأت ملامح العلم الحديث في تعريف الحياة من خلال وظائف محددة يمكن قياسها، وعلى رأسها وظائف القلب.
ومع القرن التاسع عشر، بدأت الثورة الطبية، حين تحوّل الجسد إلى منظومة، وتحولت فكرة الحياة إلى مجموعة من وظائف التنفس، النبض، الحركة، الإحساس، والتكاثر، لكن حتى مع هذا التحليل، ظلّ الأطباء يرون أن توقف القلب هو «الموت الحقيقي».
ولم يتغيّر ذلك إلا في منتصف القرن العشرين، مع ظهور أجهزة التنفس الصناعي التي أبقت القلوب نابضة والأجساد دافئة بينما الدماغ صامت تمامًا، وكان هذا التحول ثوريًا ومُربكًا في الوقت نفسه، فهل يمكن أن يكون الجسد حيًا بلا وعي؟ هل الحياة كهرباءٌ في الخلايا أم حضورٌ في الوعي؟
وفي عام 1968، أصدرت لجنة جامعة هارفارد تقريرها الشهير الذي أثار الجدل حول مفهوم الموت وقتها، حين ذكر التقرير أن الموت هو التوقف الكامل غير القابل للرجوع لوظائف الدماغ بما فيها جذع المخ، وبهذا الإعلان، فكرت البشرية في الانتقال من عصر «موت القلب» إلى عصر «موت الدماغ».
لكن هذا التعريف العلمي لم يكن نهاية النقاش، بل بدايته الحقيقية، فمن يحكم أن وظائف الدماغ المتوقفة غير قابلة للرجوع، فكثير من علماء طب المخ والأعصاب رأوا أن الوعي والإدراك هما جوهر الوجود، فإذا تعطّلا مات الإنسان، حتى لو ظل القلب ينبض، بينما رأي علماء طب القلب ورجال الدين والفلاسفة وكثير من الأطباء الإكلينيكيين، أن الجسد الذي يتنفس اصطناعيًا ما زال يحمل مظاهر حياة بيولوجية لا يجوز تجاهلها.
وظل الفلاسفة يسألون: هل الحياة وعي أم وظيفة؟ فقد فصل ديكارت بين «الروح المفكّرة» و«الآلة الجسدية»، فاعتبر أن الإنسان ليس مجرد تفاعلات فيزيولوجية، بل عقل واعٍ، أما شوبنهاور فاعتبر الحياة إرادة عمياء لا تُختزل في أي عضو أو نبض، وذهب الفيلسوف الألماني هايدجر إلى أن الموت ليس حدثًا فيزيائيًا بل «إمكانية الوجود الأخيرة»، أي أن الإنسان يموت وهو يعيش حين يدرك فنائه.
كل هذه الرؤى جعلت العلماء في حرجٍ دائم أمام السؤال: هل الميت دماغيًا قد مات حقًا، أم فقد فقط صلته بالعالم الذي ندركه؟
إن ما يٌعقد الأمر حقا أن بيولوجيا الحياة... لغز لم يُحل، فالخلية الحية ما زالت سرًّا عصيًّا على الفهم الكامل، ولم يعرف العلم حتى الآن ما هي اللحظة الدقيقة التي تبدأ فيها الحياة أو تنتهي فيها فعلًا، ففي المختبر، يمكن إيقاف أنشطة الخلايا ثم استعادتها بعد التجميد، ويمكن للقلب أن ينبض خارج الجسد، وللخلايا العصبية أن تُزرع في بيئة صناعية وتستجيب للمؤثرات.
أقهل تكون الحياة «قابلة للإيقاف»؟ أم أن هناك جوهرًا خفيًا غير قابل للنسخ؟
والعلم لا يزال عاجزًا عن الإجابة، رغم كل ما وصل إليه من تقنيات، وفي أبحاث طب المخ والأعصاب ظهرت دراسات حديثة نشرتها مجلات Nature وThe Lancet تشير إلى أن بعض المرضى في حالات «الغيبوبة العميقة» أو «الحالة الخضرية» يظهر لديهم نشاط عصبي محدود يمكن رصده بالتصوير الوظيفي للمخ.
والحالة الخضرية (المعروفة أيضًا بمتلازمة اليقظة غير المستجيبة) هي عندما يكون الشخص مستيقظًا دون أن تظهر عليه أي علامات وعي، والفرق بين موت الدماغ وهذه الحالة (اضطراب في الوعي)، والتي يمكن أن تحدث بعد تلف واسع النطاق في الدماغ، هو أنه من الممكن التعافي منها، والمريض الذي يعاني من هذه الحالة لا يزال لديه جذع دماغي عامل، مما يعني أنه قد يكون هناك شكل ممكن من أشكال الوعي والتنفس بدون مساعدة.
أي أن الحدود بين الموت والحياة لم تعد صلبة كما كنا نظن، وقد بدأت بعض المراكز البحثية - في الولايات المتحدة واليابان - تدرس إمكانية «إعادة تنشيط» خلايا دماغية خاملة بعد التوقف الكامل، وهو ما يثير أسئلة أخلاقية هائلة مثل: هل يمكن أن يُستعاد الوعي بعد إعلان الموت؟ وماذا يبقى من مفهوم النهاية إن أمكن التراجع عنها علميًا؟
والدين الإسلامي يسبق العلم بالبصيرة، فالقرآن الكريم لم يربط الموت بعضو، بل بنزع الروح، وهذا واضح في قول الله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا»، أي أن الحياة ليست مجرد ظواهر مادية، ولذلك، ظلّ الفقهاء على مرّ العصور حذرين من القول بموت من فيه حياة الجسد، لأن الروح سرٌّ لا تدركه المعادلات، والعلم يقيس «الكيفية» لكن لا يستطيع أن يفسّر «السر».
ربما أصبحنا البوم بحاجة ماسة إلى تعريف إنساني أوسع للحياة والموت، لا يقوم على الفحص الإكلينيكي وحده، بل على تكامل الجسد والعقل والإرادة، فالموت ليس قرارا إداريا تدفعه الرؤى الطبية وحدها لتكون مبررا لإصدار شهادة الوفاة، والحياة ليست فقط نبضًا في الشريان ولا ومضة في المخ، بل حضورٌ متكامل للوعي والروح والمعنى، والموت ليس غيابًا فيزيولوجيًا، بل انفصالٌ عن الذات وعن الله في آنٍ واحد.
إن الحقيقة التي لا يمكن أن ينكرها عالم، أنه كلما تقدّم العلم خطوة في فهم الجسد، ازداد حيرته أمام الروح، وكلما ظن أنه يقترب من سرّ الحياة، وجد أن التعريف يبتعد أكثر.
لذلك يبقى سؤال «من يملك إعلان النهاية؟» سؤالًا مفتوحًا، ليس فقط في غرف الإنعاش، بل في فلسفة الوجود الإنساني كله.
 

ads
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق