تعد ظاهرة السوق السوداء في اليمن واحدة من أعقد الملفات الاقتصادية والإنسانية التي أفرزتها الحرب، لكنها في المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيات الحوثي تحولت من مجرد "أزمة عارضة" إلى اقتصاد موازي مُنظم يدر مليارات الريالات على قيادات الصف الأول في الجماعة.
وفي وقت يعيش فيه ملايين اليمنيين تحت خط الفقر، تبرز تساؤلات ملحة حول آليات التكسب الحوثي من الأزمات المعيشية، وكيف تحولت المشتقات النفطية والغاز المنزلي والمواد الغذائية إلى أدوات للثراء الفاحش بدلًا من كونها سلعًا خدمية مدعومة.
هندسة الأزمات
تبدأ القصة دائمًا بـ "أزمة مفتعلة"؛ حيث تختفي المشتقات النفطية فجأة من المحطات الرسمية التابعة لشركة النفط في صنعاء، لتظهر في ذات اللحظة على أرصفة الشوارع وفي "جوالات" بلاستيكية بأسعار تضاعف السعر الرسمي بنسبة تصل إلى 300%.
وتؤكد التقارير الدولية أن هذه التجارة تدار عبر شبكات من السماسرة المرتبطين مباشرة بـ "الهامور المالي" للجماعة، حيث يتم تحويل فوارق الأسعار إلى صناديق خاصة لدعم ما يسمى "المجهود الحربي" الذي ينتهي غالبًا في حسابات استثمارية وعقارات ضخمة في الداخل والخارج.
الغاز المنزلي.. الطابور الذي لا ينتهي والأرباح التي لا تتوقف
لا يختلف وضع الغاز المنزلي عن النفط، بل ربما يكون أكثر قسوة لارتباطه المباشر بكل مطبخ يمني. اعتمدت الجماعة نظام "عقال الحارات" لتوزيع الغاز، وهو نظام ظاهره التنظيم وباطنه السيطرة والابتزاز. يتم حرمان الأسر من حصصها الدورية لإجبارها على الشراء من الأسواق الموازية التي تسيطر عليها قيادات ميدانية.
إن الفارق بين سعر الأسطوانة القادمة من مأرب وسعر بيعها في صنعاء يمثل "ربحًا صافيًا" يذهب لتمويل شبكات النفوذ، مما خلق طبقة جديدة من "أثرياء الحرب" الذين لم يكن لديهم أي ثروة قبل عام 2014، والآن يمتلكون المجمعات التجارية والمستشفيات الخاصة.
تجارة المساعدات الإنسانية..سرقة اللقمة من أفواه الجوعى
أخطر ما في إمبراطورية السوق السوداء الحوثية هو التلاعب بـ المساعدات الإغاثية الدولية، وتشير التقارير الاستقصائية إلى قيام الجماعة بفرض قيود صارمة على المنظمات الأممية، وإجبارها على توزيع المساعدات عبر كشوفات معدة سلفًا تضم الموالين للجماعة، أو الأسوأ من ذلك، مصادرة هذه المساعدات (من قمح وزيوت وسكر) وإعادة بيعها في المحلات التجارية تحت مسميات تجارية جديدة. هذا الاستثمار في "الجوع" لا يوفر سيولة مالية ضخمة فحسب، بل يُستخدم أيضًا كأداة للضغط السياسي والاجتماعي، حيث يصبح الولاء للجماعة هو السبيل الوحيد للحصول على الغذاء.
الجبايات والضرائب.. سحق القطاع الخاص المتبقي
إلى جانب التجارة المباشرة، فرضت سلطات الحوثي منظومة من الجبايات والضرائب غير القانونية تحت مسميات متعددة مثل "الخمس"، "يوم الغدير"، "المولد النبوي"، و"دعم القوة الصاروخية".
هذه الإتاوات لم تترك صغار التجار أو كبار المستثمرين، مما أدى إلى إغلاق مئات الشركات وإفلاس آلاف المحلات التجارية التي لم تستطع الصمود أمام الابتزاز المالي المستمر.
هذا الضغط المالي يُجبر التجار الباقين على رفع أسعار السلع، وهو ما يتحمله المستهلك النهائي في نهاية المطاف، لتصب كل هذه المسارات في وعاء واحد: إفقار الشعب وإثراء النخبة الحوثية.
غسيل الأموال والاستثمارات العقارية في صنعاء
أين تذهب كل هذه الأموال؟ المتتبع لحركة العقارات في صنعاء يلاحظ طفرة عمرانية هائلة في أحياء محددة، حيث تُباع الأراضي بأسعار خيالية تُدفع نقدًا بالعملة الصعبة، هذه العمليات هي في جوهرها غسيل أموال لمتحصلات السوق السوداء. القيادات الحوثية باتت تسيطر على القطاع العقاري بشكل كامل، محولةً الأموال المنهوبة من قطاعات الصحة والتعليم والوقود إلى أصول ثابتة، مما يغير الديموغرافيا الاقتصادية للعاصمة ويخلق فجوة طبقية مرعبة بين "سادة الحرب" وعامة الشعب الذين يبحثون عن رغيف الخبز في صناديق القمامة.
تداعيات الكارثة: شعب يغرق في المجاعة
إن استمرار هذه "الإمبراطورية السوداء" يعني استدامة الحرب؛ فالمستفيدون من هذه الفوضى ليس لديهم مصلحة في أي تسوية سياسية تعيد الدولة ومؤسساتها الرقابية، كما أن التضخم الجامح وانهيار القدرة الشرائية للريال اليمني في مناطق السيطرة الحوثية، جعل من العيش الكريم ضربًا من الخيال. التقارير الأممية تحذر من أن اليمن يعيش أسوأ أزمة إنسانية في العالم، لكنها نادرًا ما تشير بصراحة إلى أن جزءًا كبيرًا من هذه الأزمة "مُصنع" بأيدي النخبة الحاكمة في صنعاء التي تقتات على جراح المواطنين.
كسر حلقة الاستغلال
إن مواجهة إمبراطورية السوق السوداء الحوثية تتطلب موقفًا دوليًا حازمًا يتجاوز مجرد الإدانات الإنشائية، ويجب تفعيل آليات رقابة صارمة على تدفق الأموال والسلع، ودعم المؤسسات الوطنية الشرعية لاستعادة دورها في تنظيم السوق وتوفير الخدمات الأساسية. دون تجفيف منابع ثراء الحرب، سيبقى المواطن اليمني رهينة لسياسات التجويع الممنهج، وستبقى الأسواق السوداء هي النافذة الوحيدة التي يطل منها القادة الحوثيون على ثرواتهم المتراكمة من عرق ودموع الفقراء.













0 تعليق