خطاب قاسم على وقع التصعيد المحتمل: توازن دقيق على حافة العام الجديد

لبنان24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
في لحظة قد تكون دقيقة، تتقاطع فيها التطورات الميدانية على الجبهة الجنوبية مع اقتراب العدّ العكسي لانتهاء ما وُصِفت بالمهلة الأميركية الإسرائيلية لبدء إجراءات ملموسة من أجل نزع سلاح "حزب الله"، تحت طائلة التصعيد الإسرائيلي "الحتمي"، جاء خطاب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، ليشكّل قراءة حزبية للمرحلة، ولكن أيضًا محاولة لضبط الإيقاع، على رغم  أنّ هوامش المناورة أمام الحزب بلغت حدّها الأدنى.

لم يحمل خطاب الشيخ نعيم قاسم، بنبرته الهادئة نسبيًا مقارنة بمحطات سابقة، إعلان مواجهة على رغم التهديدات المتواصلة بجولة قتال جديدة مطلع العام الجديد، ولا فتح باب تسويات وهو الذي تحفّظ سابقًا على التفاوض مع إسرائيل، بل سعى إلى تثبيت معادلة قائمة على إدارة المخاطر. فالحزب، الذي يراقب بدقة ما يجري جنوبًا، يدرك أن المشهد الإقليمي لم يستقر بعد، وأن أي قراءة متسرّعة قد تجرّه وتجرّ معه لبنان إلى مسار لا يملك أدوات التحكم به.

في هذا الإطار، برز حديث الشيخ قاسم عن حصرية السلاح حيث كرّر مقاربة لا ترفض النقاش بالمطلق، ولكنها تربطه بمصير الجبهة الجنوبية، باعتبار أنّ المطلوب الآن وقبل أي شيء آخر وقف العدوان الإسرائيلي المستمرّ على رغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي لم تلتزم به تل أبيب، وهو ما اختصره أساسًا بعبارة "لا تطلبوا منّا شيئًا بعد الآن"، في رسالة فُهِمت "ردًا ضمنيًا" على حديث رئيس الحكومة نواف سلام حول الانتقال إلى المرحلة الثانية من "حصر السلاح".

الخطاب كرسالة مزدوجة

داخليًا، حاول الخطاب امتصاص الضغوط السياسية المتصاعدة حول دور الحزب وسلاحه، من دون تقديم تنازلات جوهرية. في هذا السياق، بدت الرسالة واضحة، وربما مكرّرة أيضًا، وعنوانها أنّ أي نقاش استراتيجي لا يمكن فصله عن الواقع الأمني، وبالتالي فمن غير الجائز فتحه فيما الجنوب تحت التهديد. بهذا المعنى، يسعى الحزب إلى تجميد الاشتباك السياسي الداخلي، أو على الأقل منع انفجاره، في انتظار ما ستؤول إليه التطورات الإقليمية.

خارجيًا، حمل الخطاب رسائل تبدو "محسوبة" إلى إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة، وإن كانت تتموضع "على الحافة"، إن جاز التعبير، بين محاولة الردع وإدارة المخاطر. فالتأكيد على حق الدفاع، وربط أي مسار سياسي بوقف الاعتداءات، يشكّل محاولة لكسر المعادلة التي ثبّتتها إسرائيل طوال العام المنصرم، حين حوّلت اتفاق وقف إطلاق النار، إلى حرب أحادية على لبنان، بموجب ما سمّته بـ "حرية الحركة"، ما جعل لبنان ساحة مفتوحة أمامها.

وما يلفت في الخطاب، هو غياب لغة التهديد المباشر أو التصعيد اللفظي العالي السقف، على رغم أنه يأتي عشية انقضاء مهلة يقال إنّ التصعيد بعدها سيكون "حتميًا". فالحزب يريد، على ما يبدو، إبقاء مساحة مناورة تسمح له بالتكيّف مع مسارات متعددة، سواء اتجهت الأمور نحو احتواء نسبي أو نحو تصعيد محدود، ولعلّ ذلك يعود في المقام الأول إلى أن الحزب قد يكون حريصًا على تجنّب حرب واسعة، يعتقد كثيرون أنّه ليس جاهزًا بعد لخوضها.

الجنوب بين الترقّب وإدارة المخاطر

ميدانيًا، لا يمكن فصل الخطاب عن واقع الجنوب الذي يعيش حالة "اللا حرب واللا سلم"، وسط "سخونة" تتفاوت مستوياتها بين يوم وآخر، بلا معايير واضحة. فالاعتداءات الإسرائيلية مستمرة بوتيرة متفاوتة، على رغم اتفاق وقف إطلاق النار، وكذلك التهديدات بالعودة إلى الحرب مطلع العام الجديد، علمًا أنّ هناك من يرى أنّ الحرب قائمة أساسًا، وأنّ لا مصلحة لإسرائيل بتغيير نمطها طالما أنها تفعل ما تشاء، وتغتال من تشاء، وحيثما تشاء.

هذا الواقع يضع لبنان أمام معادلة شديدة التعقيد. فالدولة، الغائبة عن التأثير الفعلي في القرار الميداني، تحاول إدارة المخاطر بأدوات ديبلوماسية محدودة، وخصوصًا من خلال قناة اجتماعات "الميكانيزم" بعد التغييرات التي طرأت عليها، ولكن في ظل غياب أي ضمانات دولية واضحة تمنع الانزلاق نحو مواجهة أوسع. أما الحزب، فيتحرّك ضمن هامش ضيّق، يسعى من خلاله إلى منع فرض وقائع جديدة عليه، من دون دفع الأمور إلى نقطة اللاعودة.

القلق الأساسي يتمحور حول ما قد تحمله الأسابيع الأولى من العام الجديد. فإسرائيل قد تجد في الجبهة اللبنانية ورقة ضغط أو متنفسًا سياسيًا، فيما يبقى لبنان الحلقة الأضعف، العاجز عن تحمّل كلفة أي مغامرة عسكرية واسعة. ومن هنا، يمكن قراءة خطاب قاسم كمحاولة واضحة لكسب الوقت، أي لا تصعيد ولا تهدئة شاملة، بل تثبيت توازن هش في انتظار اتضاح المشهد. فالحزب يدرك أن قرار الحرب ليس لبنانيًا صرفًا، لكنه يعلم أن كلفتها ستكون لبنانية أولًا وأخيرًا.

في الخلاصة، لا يؤسس خطاب الشيخ نعيم قاسم لمرحلة جديدة بقدر ما يعكس إدارة دقيقة لمرحلة قائمة. هو خطاب انتظار أكثر مما هو خطاب حسم، في لحظة إقليمية مفتوحة على كل الاحتمالات. وبين جنوب يغلي على نار هادئة وداخل مأزوم سياسيًا واقتصاديًا، يبدو لبنان وكأنه يحاول عبور الأيام المقبلة بأقل الخسائر الممكنة، ريثما تتضح صورة العام الجديد.. إن كانت تحمل انفراجًا، أم مواجهة مؤجّلة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق