ياسر حمدي يكتب:إلحقوها!!..

تحيا مصر 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

إذا أردت أن تبني الأوطان، فعليك ببناء الإنسان، وإذا أردت بناء الأنسان، فعليك ببناء نظامك التعليمي، لذلك دول العالم تتقدم وتعمل وتبذل كل ما تستطيع لتطوير أنظمتها التعليمية في كل مستوياتها مستعينة في ذلك بكل العارفين والمخططين والمختصين.
وفي علم الإقتصاد، حين تتزاحم المتغيرات، وتتشابك النتائج، نلجأ إلى خطة منهجية تُسمى «تثبيت المتغيرات»، أي «تجميد مؤقت» لكل العناصر، والسماح لمتغير واحد فقط أن يكون على رأس الأولويات؛ تلك النظرية ـ وإن كانت إقتصادية ـ تصلح كقاعدة حياتية، وسياسة وإدارة عامة، في ظل تزاحم الأولويات، التي لا يمكن أن تُقاد جميعها في نفس اللحظة، بنفس القوة والكفاءة.
لذلك، يجب علينا أن نركز جهودنا، في أهم ملف على الإطلاق، وهو «التعليم»، كأولوية قصوى وضرورة ملحة، مع عدم إغفال أو تجاهل بقية ملفات: الصحة، الإقتصاد، البنية التحتية، الثقافة، التكنولوجيا، فهي جميعها ملفات لا تحتمل التأجيل.
إن التركيز هنا لا يعني الإهمال، بل يعني بناء نقطة ارتكاز يُعاد من خلالها توزيع القوة على بقية القطاعات، فقد ثبت أن الحكومة لا تستطيع الإمساك بكل الخيوط دفعة واحدة، والنجاح في جميعها!
عندما نتحدث عن منظومة التعليم، نجدها في حالٍ يرثى لها منذ عقود؛ منظومة مهترئة و«راسبة» بامتياز، لا يوجد بها إستراتيجية واحدة، أو منهج وطني موحد، في ظل وجود أنواع شتى للتعليم، كما لو أننا في دول عدة، بقوميات مختلفة.. ما بين الحكومي، الفني، الثانوي العام، الأمريكي، الفرنسي، البريطاني، الألماني، الأزهري.. وللأسف المحصلة لا شيء! 
تلك المنظومة أصبحت «حقل تجارب»، في كافة تفاصيلها: «المعلم، الطالب، المنهج، البيئة التعليمية، الإدارة، الثقافة المجتمعية، الخطط والرؤى المتغيرة باستمرار».. والحاصل إعادة هيكلة، مع كل وزير جديد، والنتيجة فشل متكرر!
لعل من المفارقات الموجعة، أن منظومة التعليم كانت قديمًا تُخرِّج جهلًا بوجوه ناضجة، فإذا بها اليوم تُخرِّج أطفالًا جهلة، يُختَصر مستقبلهم في تجارب عشوائية، وتُرتهَن أعمارهم لاحتمالات الخطأ والصواب، والنتيجة تعليم لا يواكب سوق العمل، ولا حتى أبجديات الحياة.. تعليم يتأرجح بين وزيرٍ يبشّر بالتابلت كخلاص، وآخر يستدعي البوكليت كتعويذة، فضاعت هوية جيل بين شاشة لا تُعلِّم، وورقة لا تُفكِّر.
تلك السلبيات، التي لا يمكن قبولها في أي وزارة أخرى، بكل تأكيد لا يمكن قبولها في وزارة تُعنى بالنشء، وتبني الإنسان لا تُجرّبه، لأن العبث بالعقول أخطر من العبث بالميزانيات، والخسارة لا تُقاس بالأرقام، بل بأمة تُستنزَف في مستقبل شبابها.
في الماضي كنا نتحدث عن التعليم المصري بفخر واعتزاز وكان يستحق ذلك، وكانت سمعة المدرسة والجامعة والمناهج تحمل نوعًا من التفرد والخصوصية، وكان التعليم في مصر منافسًا لأرقى النماذج الناجحة على مستوى العالم مقارنة بالدول النامية؛ كنا نستطيع أن نعرف مستوى التعليم في مصر، في تكامل وقوة وحداثة المناهج في كل التخصصات، وفي قدرات المعلم وثقافته وجديته والتزامه في أسلوب تدريسه وإدارة المؤسسات التعليمية.
من مدارس مصر خرجت أجيال قدمت للعالم حشودًا من الأبناء الذين تفوقوا في كل جوانب المعرفة؛ وشهدت جامعات مصر نهضة ثقافية غير مسبوقة في الآداب والعلوم والتراث والتاريخ واللغات، وقدمت نماذج رفيعة من الأستاذة.
وكان التعليم المصري أول من نقل تجربته الثرية إلى الوطن العربي من خلال المدرسين وأساتذة الجامعات والمفكرين وكبار الكتاب والصحفيين؛ ولا يوجد بلد عربي لم يكن التعليم المصري صاحب دور ورسالة فيه؛ ومن الإنصاف أن نعترف بأن تعليم مصر كان الأساس الذي قامت عليه برامج التنمية في العالم العربي، تخطيطًا ودراسة وتنفيذًا ونجاحًا.
إننا نتساءل: كيف يمكن أن يكون لدينا جيل متزن الفكر، موحَّد الرؤية، بينما المنظومة ذاتها بدون أهداف أو رؤىً واضحة، وبفلسفات متناقضة، وتخضع في كل مرحلة لمزاج جديد، يُضيف ويُلغي ويُعَدِّل، دون أن يُستَكمل إلى نهايته؟!.
إذا أردنا الإصلاح، فالطريق يبدأ من المعلم، باعتباره حارس الوعي وصانع العقول، وإصلاح وضعه ليس منحة، بل هو حجر الأساس للنهوض بالمنظومة، ثم يأتي الطالب، الذي يظل حبيس منظومة تطالبه بالنجاح، لكنها لا تطالبه بالفهم، ليتحول إلى متلقٍّ سلبي، يُقاس مستقبله على ورقة امتحان واحدة، بينما العالم يقيس العقول بمهارات التفكير والإبداع والقدرة على اتخاذ القرار. 
يجب أن تتحرر المناهج من عبء الحشو، وتتحول من ثقافة «المقرر المزدحم»، إلى «المعرفة القابلة للحياة»، لتُعَلِّم الطالب كيف يفكر؟ قبل أن تعلمه ماذا يفكر؟، وتصنع عقولًا قادرة على مواجهة الأسئلة، لا عقلًا يُرتّب الإجابات مسبقًا.
كما يجب التركيز على البيئة التعليمية، لأنها الإطار الذي يضمن نجاح كل ما سبق، فلا يمكن أن نطالب التلاميذ بالانضباط، والمعلم بالابتكار، في مكان لا يراعي الكرامة، ولا يوفّر الأدوات، ولا يحترم الزمن، ولا يحفّز على التعلُّم.
ويبقى سؤال أكثر إلحاحًا: كيف نتوقع نجاح منظومة تعليمية متعددة الأهداف والرؤى المتضاربة، أن تُخَرِّج جيلًا ـ بعد سنوات ـ متساوي الفكر، وليس جيلًا يُعامَل كحقل تجارب؟ بالطبع لا يمكن، فالمنظومة التي لا تتفق على هدف واحد، ستُنتِج آلاف الاتجاهات، ولن يكون لها اتجاه وطني طموح، ولذلك يجب التخطيط العلمي بأن التعليم رؤية وطن، ومشروع أمة، ونافذة المستقبل الوحيدة لتخريج أجيال متميزة، تستطيع مواكبة العصر، وتحقيق التنمية والتطور.. حفظ الله مصر أرضًا وشعبًا وجيشًا وقيادة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق