الأحد 21/ديسمبر/2025 - 09:20 م 12/21/2025 9:20:18 PM
أفتح اليوم، عبر هذه السلسلة من المقالات، ملفًّا مسكوتًا عنه طويلًا، ملفّ صناعة النشر فى مصر من زاوية رؤية الكاتب والمؤلف والمبدع ومعاناته فى رحلة نشر مؤلفاته وحماية ملكيته الفكرية، لا من زاوية السوق، ولا منطق البيع والشراء وحده.
أفتحه متسائلًا عن مصير مؤلفات المبدعين، وعن ذلك الطريق الشائك المحفوف بالمخاطر الذى يسلكه الكاتب كلما قرر أن يرى كتابه مطبوعًا، حاضرًا بين أيدى القرّاء.
إنه طريق لا يضمن – فى أغلب الأحوال – حقًّا واضحًا، ولا عائدًا معلومًا، ولا حماية حقيقية للملكية الفكرية، بل طريق قاسٍ، غامض، يضع الكاتب فى مواجهة مجهول لا تحكمه قواعد عادلة ولا ضوابط شفافة.
فالكاتب، فى واقع النشر الراهن، يدخل عالمًا لا يمتلك فيه أدوات التحقق ولا وسائل المحاسبة، عالمًا يُطلب منه فيه أن يثق، وأن ينتظر، وأن يصبر.. دون أن يكون له حق السؤال أو الاعتراض.
تبدو تجربة الكاتب مع النشر فى مصر- عقدًا بلا ضمان، وتجربة موجعة فى عمومها، مع استثناءات محترمة بالطبع لتجارب قليلة لبعض الناشرين، فأغلب دور النشر، لا كلها، تشترط على الكاتب تحمّل نفقات طباعة كتابه كاملًا، ثم تُبرم معه عقدًا يُحدد عدد الطبعات، وعدد النسخ، ومدة التعاقد، والنطاق الجغرافى للتوزيع، لكن المشكلة الحقيقية لا تبدأ عند العقد..بل بعده، إذ لا توجد وسيلة واحدة تُمكّن الكاتب من التحقق الفعلى مما كُتب فى هذا العقد: لا من عدد النسخ المطبوعة، ولا من عدد ما بيع فعلًا، ولا من أماكن التوزيع، ولا من علمه الموثوق بمشاركة الكتاب فى معارض الكتب وخاصة الدولية منها.
وحين يأتى موعد الحساب، وتأتى لحظة السؤال المشروع عن عوائد الكتاب، تكون الإجابات محفوظة وجاهزة: لم يتم الجرد بعد، النسخ ما زالت فى المكتبات، نحتاج لبعض الوقت.. ثم لا يأتى هذا الوقت أبدًا.
لهذا، كنت – ولا أخفى ذلك – سعيدًا بتغيّر طرأ على رئاسة اتحاد الناشرين المصريين، حين تولّى الأستاذ فريد زهران، المرشح الرئاسى فى الانتخابات الأخيرة، رئاسة الاتحاد، وقد – كان ومازال – أملى معقود على توليه هذا المنصب، وزاد من هذا الشعور أن خطاب الرجل السياسى، خلال حملته الانتخابية، كان خطابًا متزنًا، يحمل أفكارًا جادة، ورؤية عامة تتجاوز الشعارات السطحية.
فقد تحدث بوضوح عن تصور لإدارة الدولة يقوم على تحديد دورها فى المشروعات الاستراتيجية الكبرى، والتخارج من الأنشطة الاقتصادية غير الجوهرية، وإتاحة المجال أمام القطاع الخاص دون مزاحمة، وتحدث عن استراتيجية لتقليص الدين العام، وربط الاقتراض بالمشروعات ذات العائد المباشر، وتحدث – وهو الأهم – عن مشروع وطنى شامل، صناعى وزراعى وخدمى وثقافى، تشارك فيه المؤسسات كافة، بهدف تشغيل العمالة وتعميق الصناعة وبناء الإنسان، وهو ما أجد أن الدولة أخذت به الآن، وتحدث عن إنشاء مفوضية لمكافحة كافة أشكال التمييز، مؤكدًا أن مشروعه ليس «صفريًّا»، وأن الانتخابات ليست مسرحية.
وفى ملف الشباب، التزم بخلق بيئة إيجابية تُعزّز المشاركة، وتنمّى القدرات، وتحمى الإبداع، وتُدير الحوار بين جميع أصحاب المصلحة، ثم قال، بعد توليه رئاسة اتحاد الناشرين، إن لمكتبات ومراكز الشباب دورًا مهمًا فى دعم صناعة الكتاب.
وأنا – بلا شك – أُقدّر التاريخ السياسى والاجتماعى للأستاذ فريد زهران، الممتد لما يقرب من خمسين عامًا، لكن هذا التاريخ، وهذا الخطاب، وهذه الرؤية، كلها دفعتنى إلى سؤال مباشر لا يمكن تجاهله: ألا يوجد فى برنامج الأستاذ فريد زهران الذى قدمه فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ما يمكن أن يقدمه من موقعه على رأس اتحاد الناشرين، لحماية حقوق كٌتّاب مصر ومبدعيها باعتبارهم من أصحاب المصلحة الذين يجب سماع صوتهم؟
ألا يوجد عمليًا ما يمكن فعله لحماية عوائدهم من النشر؟ حتى تُصان ملكيتهم الفكرية؟ وأين يقف الاتحاد من انتهاكات باتت شبه طبيعية فى سوق النشر؟
فالمؤلفات المنشورة اليوم تُستباح على شبكة الإنترنت، تُرفع وتُنسخ وتُتداول بلا إذن، بلا عائد، بلا حماية، وحماية هذه الحقوق ليست مسئولية الكاتب، بل تقع – أصالة – على عاتق الناشر، الذى امتلك حقوق النشر بموجب تعاقده مع الكاتب والمؤلف، ثم على الاتحاد الذى ينظّم المهنة.
وهناك نسخ تُطبع وتُصدّر للخارج، وتُشارك فى معارض دولية، دون أن يعلم الكاتب عنها شيئًا، وهذا- وأقوله بوضوح- حدث معى شخصيًا، ويحدث مع غيرى كثيرًا.
ولا أكتب هذا الكلام من موقع التنظير أو السماع، بل من موقع التجربة الشخصية المباشرة فى إشكاليات أخرى، فلدىّ عمل روائى صدر منه بالفعل طبعة أولى بشكل قانونى، ثم فوجئت – دون إخطار مسبق أو علم أو توقيع عقد – بصدور طبعة ثانية منه خلال معرض القاهرة الدولى للكتاب فى إحدى دوراته، بغلاف جديد، وتحت اسم دار نشر ذائعة الصيت، تمتلكها شخصية عامة كبيرة، تحظى باحترام واسع وتقدير اجتماعى وثقافى لا يُنكر.
وقد تواصلت معى هذه الشخصية وأنا على أعتاب الدخول لساحة القضاء، وعلى قدر ما قدّرت هذا التواصل، وجدت نفسى أمام موقف إنسانى وقانونى بالغ الحساسية، إذ طلب منى – بنبرة تقدير – أن أُقدّم له عقدًا يُجلى ساحة الدار القانونية، موضحًا أن ما حدث كان خطأ إداريًا من مدير الدار، لا علم له به.
وفى هذه اللحظة، لم يكن أمامى سوى خيار واحد: أن أتنازل عن حقى القانونى، لا ضعفًا، ولا جهلًا، بل حرصًا على مكانة رجل كبير، وتقديرًا لتاريخه واحترامه فى المجتمع، بعد أن حمّلنى – دون قصد – عبء تصحيح خطأ لم أرتكبه.
وهنا لا أتحدث عن حالة فردية، بقدر ما أضع يدى على جوهر الأزمة: كاتب يُجبر، تحت ضغط المكانة والاعتبارات المعنوية، على التنازل عن حقه المشروع، فى غياب منظومة تحميه، أو منظومة تقف بينه وبين مثل هذه الوقائع، قبل أن تتحول من «خطأ إدارى» إلى سابقة مؤلمة.
وهناك أمثلة أخرى لا يتسع المقام لذكرها الآن، لكنها جميعًا تشير إلى خلل بنيوى عميق.
إننا حين نقرأ شعار اتحاد الناشرين على بوابته الإلكترونية: «ننقل المعرفة والعلم بين الأجيال»، وحين نطالع تعريفه لمهمته: إثراء الحياة الثقافية، ورفع مستوى مهنة النشر، ودعم الكتّاب، والعمل كوسيط حيوى بين الكاتب والقارئ، وتحليل السوق، وتطوير النصوص، يتبادر تلقائيا فى العقل سؤال يطرح نفسه عن وجود فجوة صادمة.
إن أرفف المكتبات، وأجنحة أغلب دور النشر فى معارض الكتب، تمتلئ بآلاف العناوين التى تحمل أسماء كتاب بلا نشاط فكرى معتبر، ولا مشروع معرفى واضح، وحين نفتح كثيرًا من هذه الكتب، نجد لغة ركيكة، وأفكارًا مرتبكة، وأخطاء إملائية فاضحة، والسبب- فى الأغلب- واضح: من يدفع.. يُنشر، ومن لا يملك المال، مهما امتلك الفكر، يُقصى خارج المشهد.
وهكذا، يغيب عن صناعة النشر «المنتج المُكتشف»، ويغيب معه المبدعون الحقيقيون الذين يملكون الكلمة ولا يملكون المال، أو يرفضون أن يدفعوا ليُنشروا، لصالح ناشر قد لا يتحمّل أى مخاطرة.
أليس هذا وأدًا للموهبة؟ أليس إضعافًا لاكتشاف نوابغ الكتاب والمؤلفين؟
فى أى صناعة إبداعية أخرى، لا تتحمّل الوحدة الأساسية فى المشروع «أقصد هنا صانع محتواه الفكرى الأولى كُلفة تقديم نفسها، وفى السينما لا يدفع الممثل أجره ليظهر، وفى الدراما لا يمول المبدع عمله ليُعرض، وفى الغناء لا يشترى المطرب حق الغناء من المنتج، فلماذا وحده الكاتب الذى يتحمل هذا المسار؟.
وهنا يأتى العتاب، لا الاتهام، والسؤال، لا الإدانة: ألا تمثل رئاسة اتحاد الناشرين، للأستاذ فريد زهران، فرصة حقيقية لتطبيق جزء من برنامجه الرئاسى؟ أليست فرصة لإدارة ملف النشر بعقل الدولة، لا بمنطق السوق وحده؟
ألا يمكن أن يقود، من موقعه، ثورة هادئة تحمى حقوق النشر والناشرين، وتفتح الطريق أمام الإبداع الحقيقى، وتعيد الاعتبار للكاتب بوصفه أصل الصناعة لا عبئًا عليها؟
لقد امتلكت مصر، فى زمن غير بعيد، كتّابًا أفذاذًا صنعوا وعيها الحديث، وسجّلوا تاريخها الاجتماعى والسياسى والثقافى بأقلامهم؛ مثل طه حسين، وتوفيق الحكيم، وعباس محمود العقاد، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، ويوسف السباعى، ومحمد حسين هيكل، ويحيى حقى، ومصطفى محمود، ومصطفى صادق الرافعى، وإحسان عبد القدوس… والعشرات بل المئات غيرهم من الكبار المعتبرين والذى لا يسع المجال لذكرهم.
وما كان لهؤلاء أن يصبحوا أعمدة فى الوعى المصرى والعربى، ولا أن يمتد تأثيرهم العميق فى المجتمع، لولا منظومة نشر أدركت أن الاستثمار الحقيقى هو فى الموهبة، فاحتضنتهم، ودعمتهم، وأنصفتهم، وفى الوقت ذاته حققت من ورائهم عوائد ضخمة ومشروعة، لأن العدالة لم تكن نقيض الربح، بل شرطه.
وأقول هذا، وأنا أكنّ كل الاحترام والتقدير للأستاذ فريد زهران، ولتاريخ اتحاد الناشرين المصريين وأعضاء مجلس إدارته الحاليين، ودوره التنظيمى المهم، غير أن المادة الثانية من قانون الاتحاد، كما تعكس بوضوح، لا تقتصر على حماية حقوق الناشرين بل والالتزام بواجباتهم أيضا، والحيلولة دون مـا يسيء إلى شرف المهنة ورسالتها، وبل تتصل بجوهر صناعة النشر نفسها، وبمهمتها الأسمى التى أعلنها الاتحاد: نقل المعرفة والعلم بين الأجيال.
وهنا يفرض السؤال نفسه بإلحاح لا يحتمل التأجيل: كيف تنتقل المعرفة، وكيف يُورَّث العلم، وصنّاعه الأساسيون محبطون، وحقوقهم مهددة، ومكانتهم مهشّمة داخل منظومة يفترض أنها تقوم فى أولها على ما يكتبون؟
سؤال لا يستهدف شخصًا، ولا يُدين مؤسسة، لكنه يفتح بابًا لا يجوز أن يُغلق.. لأن الأمم لا تُبنى بالكتب وحدها، بل بالعدالة التى تُنصف من يكتبونها، وما كتبت ما أكتب الآن إلا لثقتى أن مجلس إدارة اتحاد الناشرين المصريين الحالى، يستطيع أن يحقق هذه المعادلة الصعبة.
وللحديث بقية، فى سلسلة تستهدف إثراء صناعة النشر، بإنصاف من يكتبون.


















0 تعليق