تمر اليوم الذكرى الـ 108 على ميلاد الروائي والأديب الألمانى "هاينريش بول"، إذ ولد فى مثل هذا اليوم 21 ديسمبر عام 1917م، وحصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1972، "لكتاباته، التى ساهمت من خلال الجمع بين منظور واسع فى رؤيته ومهارة حساسة فى التوصيف فى تجديد الأدب الألمانى"، وفي ضوء ذلك نستعرض جاء في خطاب حفل توزيع الجوائز.
حسب ما ذكره موقع جوائز نوبل الرسمي، في كلمة تقديمية ألقاها كارل راجنار جيرو، الأمين الدائم للأكاديمية السويدية، بمناسبة فوز هاينريش بول" بجائزة نوبل في الأدب لعام 1972م: من يحاول استيعاب غزارة إنتاج هاينريش بول الأدبي المتنوع، يجد نفسه أمام مفهوم مجرد، إلا أن هذه الكتابات - التي بدأها قبل عشرين عامًا وبلغت ذروتها في روايته "صورة جماعية مع سيدة" تتجلى فيها فكرة محورية مزدوجة، يمكن اعتبارها بمثابة هذا المفهوم المجرد الشامل، ويمكن صياغة هذه الفكرة على النحو التالي: المشردون وجماليات الإنسانية، لكن مشردي بول ليسوا أفرادًا تعساء أو حطامًا بشريًا منبوذًا خارج أسوار المجتمع، إنه يروي قصة مجتمع بلا مأوى، حقبة منحرفة ومهجرة، يقف أفرادها في كل زاوية شارع، يمدون أيديهم، متوسلين العون من ذوي القلوب الرحيمة والتضامن الإنساني، هذا هو الوضع الذي يقوم عليه كتاب بول "جماليات الإنسانية".
يكتب عما يسعى إليه كل إنسان ليحيا حياةً كريمة، في الأمور الصغيرة والكبيرة على حد سواء، عن "المسكن، والجوار، والوطن، والمال، والحب، والدين، والوجبات"، كما يورد هو بنفسه، بتنوع أساليبه، من السخرية والمحاكاة الساخرة المرحة إلى المعاناة العميقة، يُعدّ هذا العمل شكلاً من أشكال الجماليات الملتزمة بشغف، كما أنه يحمل في طياته برنامجه الأدبي، من يسعى لتصوير أبسط ضروريات الحياة، يبقى متواضعاً وواقعياً.
ومع ذلك، فقد صرّح بول قائلاً: "أحتاج إلى القليل من الواقعية"، وهي عبارة جديرة بالملاحظة، صادرة عن شخص يُعتبر، وربما يعتبر نفسه، راوياً واقعياً، الواقع الذي لا يحتاج إليه إلا قليلاً هو واقع الرواية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر، الواقع الذي يُعاد إنتاجه بأمانة بعد دراسة دقيقة للتفاصيل. بول بارعٌ للغاية في هذه الطريقة، لكنه يستخدمها بسخرية؛ فلا حدود للإسهاب في التفاصيل.
لكنّ المزاح بشأن هذا الشكل الدقيق من التسجيل يُعدّ بحد ذاته دليلاً على مدى ضآلة حاجة بول لمثل هذا الواقع، تشمل براعته القدرة على إضفاء الحيوية على عالمه وشخصياته بخطوط قليلة، بل تكاد تكون غير واضحة أحياناً.
مع ذلك، ثمة حقيقة أخرى تتطلبها كتابات بول باستمرار: خلفية وجوده، والهواء الذي تنفسه جيله، والإرث الذي ورثه، هذه الحقيقة هي الموضوع المتكرر، الذي يُلاحظ بدقة متناهية، في كتابات هاينريش بول، منذ بداياته وحتى تحفته الفنية المذكورة سابقًا، " صورة جماعية مع سيدة" ، التي تُعدّ حتى الآن تتويجًا لأعماله، جاءت انطلاقة بول الحقيقية في الأعوام 1953 و1954 و1955 مع نشر ثلاث روايات متتالية: " ولا يقول كلمة واحدة"؛ و"بيت بلا مأوى" ؛ و"خبز السنوات الأولى"، ورغم أنه من المفترض أن هذا لم يكن قصد المؤلف، فإن هذه العناوين الثلاثة تُشير إلى الواقع الذي يصوّره بإصرار وقوة، كانت خلفيته سنوات المجاعة في ألمانيا، كان خبز "داس بروت دير فروهين ياره" (خبز السنوات الأولى) ، ذلك الخبز الذي لم يكن يكفي أبدًا، وغالبًا ما كان غائبًا، الخبز الذي كان على المرء أن يتسوله أو يسرقه للبقاء على قيد الحياة، وهذا النظام الغذائي لا يزال محفورًا في ذاكرته، كان الإرث الذي كان عليه هو ومعاصروه إدارته هو "هاوس أوهني هوتر" ( بيت بلا راعٍ)، وجود في حالة خراب، مع مرور الوقت أرملةً والمستقبل يتيمًا، كان الهواء الذي يتنفسه هو ومعاصروه يُستنشق تحت وطأة الديكتاتورية، "أند ساغته كاين إينزيغيس وورت" (لا يقول كلمة واحدة)، لأن تلك اليد كانت تخنق كل صوت.
ليس من قبيل المعجزات الألمانية أن يظهر، بعد سنوات من الفقر المدقع، جيل جديد من الكُتّاب والمفكرين والباحثين، مستعدين سريعًا لتحمّل مسؤولية بلادهم ومسؤوليتهم الشخصية في الحياة الروحية لعصرنا، إن تجديد الأدب الألماني، الذي تشهد عليه إنجازات هاينريش بول، والذي يُعدّ جزءًا هامًا منه، ليس مجرد تجربة شكلية - كما لو أن غريقًا يستهزئ بضربة الفراشة. بل هو ولادة جديدة من رحم الفناء، وقيامة، وثقافة، بعد أن أهلكتها ليالي جليدية وحُكم عليها بالانقراض، تُنبت براعم جديدة، وتزهر، وتنضج، لتُسعدنا جميعًا وتُفيدنا، هذا هو نوع العمل الذي أراد ألفريد نوبل أن تُكافئه جائزته.
















0 تعليق