مراد وهبة.. مائة عام من معركة العقل والتنوير

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في مئوية ميلاده، لا يُستدعى اسم الفيلسوف المصري الدكتور مراد وهبة بوصفه أستاذًا جامعيًا أو مفكرًا أكاديميًا فحسب، بل باعتباره أحد أبرز فرسان معركة العقل في الثقافة العربية الحديثة، ومشروعًا فلسفيًا متكاملًا كرّس عمره للدفاع عن حرية التفكير، ومواجهة التطرف، وتفكيك البنى الذهنية المغلقة التي عطّلت التقدم وأعاقت النهضة.

وُلد مراد وهبة عام 1926، ليشهد قرنًا كاملًا من التحولات الكبرى التي عصفت بمصر والعالم العربي: من صعود الأيديولوجيات الشمولية، إلى صدامات الحداثة والتقليد، ومن أحلام الاستقلال الوطني إلى أزمات الدولة الوطنية الحديثة. وفي قلب هذه التحولات، ظل وهبة ثابتًا في انحيازه للعقل، رافضًا كل أشكال الوصاية الفكرية والدينية.

الفلسفة بوصفها مقاومة

لم يتعامل مراد وهبة مع الفلسفة باعتبارها نشاطًا ذهنيًا منعزلًا أو ترفًا نخبوياً خاصًا بقاعات الدرس الجامعي، بل رآها فعلًا تاريخيًا وموقفًا وجوديًا في مواجهة الاستبداد بكل صوره، سواء كان سياسيًا أو دينيًا أو ثقافيًا. بالنسبة له، كانت الفلسفة ممارسة نقدية تهدف إلى تحرير الوعي من الخوف، وكسر البنى الذهنية الجامدة، وفضح اليقينيات المطلقة التي تُستخدم لإخضاع الإنسان وتعطيل قدرته على التفكير الحر.

وانطلاقًا من هذا التصور، صاغ وهبة أحد أكثر مفاهيمه إثارة للجدل: «التطرف ضد التطرف»، مؤكدًا أن مواجهة الفكر المتشدد لا يمكن أن تتم بالحياد أو المجاملة أو الخطاب الرمادي، بل تحتاج إلى موقف عقلي صارم، يستند إلى العقلانية والشك المنهجي والتفكيك الفلسفي. وكان يرى أن التساهل مع التطرف يمنحه شرعية ضمنية، بينما التصدي له بالفكر النقدي هو السبيل الوحيد لنزع قدسيته وكشف تناقضاته الداخلية.

وشغل نقد الأصوليات الدينية مساحة مركزية في مشروع مراد وهبة الفلسفي، حيث سعى إلى تفكيك الآليات التي تتحول بها النصوص الدينية من مصادر للهداية الروحية إلى أدوات للهيمنة والسيطرة. وقد انصبّ اهتمامه على تحليل العلاقة المعقدة بين العقل والنص، رافضًا إخضاع العقل لقراءات حرفية مغلقة، ومؤكدًا أن تعطيل العقل هو المقدمة الأولى لصناعة التعصب والعنف باسم المقدس.

وفي السياق ذاته، حذر وهبة مرارًا من الخلط بين الدين والسياسة، معتبرًا أن إدخال المقدس في مجال السلطة يحوّل الإيمان إلى أداة إقصاء وقهر، ويمنح العنف غطاءً أخلاقيًا زائفًا. فحين يتحول الدين إلى مشروع سياسي، يفقد جوهره الروحي، وتتحول العقيدة إلى أيديولوجيا، ويصبح الاختلاف جريمة، والمعارضة كفرًا، وهو ما رآه الفيلسوف المصري أحد أخطر أسباب الانغلاق الحضاري والتشوه الفكري في العالم العربي.

مدرسة التنوير المصري

يُمثّل مراد وهبة حلقة متقدمة في سلسلة التنوير المصري التي بدأت منذ القرن التاسع عشر مع رفاعة رافع الطهطاوي، الذي فتح الباب أمام فكرة التحديث والتفاعل النقدي مع الغرب، ثم محمد عبده الذي حاول التوفيق بين العقل والنص وإعادة الاعتبار للاجتهاد. وقد انتقل هذا التيار لاحقًا من الإصلاح الديني إلى النقد الفكري والفلسفي مع طه حسين وزكي نجيب محمود، حيث أصبح العقل نفسه موضوعًا للتفكيك والمساءلة.

غير أن مراد وهبة لم يكتفِ بالوقوف داخل هذا التقليد التنويري، بل دفعه إلى مساحة أكثر صدامية ووضوحًا، خاصة في تعامله مع صعود الإسلام السياسي والجماعات الراديكالية. فقد رأى أن لحظة المجاملة الفكرية قد انتهت، وأن التنوير لم يعد مجرد مشروع ثقافي إصلاحي، بل أصبح ضرورة وجودية في مواجهة خطاب يرفض الحداثة ويصادر العقل باسم الهوية أو المقدس.

ومن خلال عمله الأكاديمي أستاذًا للفلسفة في الجامعات المصرية، لم يكن وهبة مجرد ناقل للمذاهب الفلسفية الغربية أو شارح لتاريخ الفكر، بل كان يسعى إلى تدريب طلابه على ممارسة الفلسفة ذاتها: طرح الأسئلة، الشك المنهجي، وتحليل المسلّمات. وقد تحوّلت قاعاته الدراسية إلى مساحات حوار حر، تتجاوز التلقين إلى التفكير النقدي، في وقت كان فيه هذا النهج محفوفًا بالمخاطر والاتهامات.

أما في كتاباته الغزيرة، فقد أسهم مراد وهبة في تكوين وعي فلسفي لدى أجيال من الباحثين والمثقفين، ممن حملوا مشروع السؤال بدلًا من ثقافة الإجابة الجاهزة. وبذلك لم يكن تأثيره مقصورًا على نصوصه وحدها، بل امتد إلى تلاميذه وقرائه، الذين وجدوا في تجربته نموذجًا للفيلسوف الملتزم بقضايا عصره، والمنحاز بلا تردد إلى العقل، بوصفه حجر الأساس لأي نهضة حقيقية.

مؤلفات تصنع الأسئلة

ترك مراد وهبة رصيدًا فكريًا مهمًا من الكتب والدراسات، من أبرزها:

مشكلة الحقيقة في الفلسفة الحديثة

العقل والنص

اللاهوت السياسي

أزمة العقل في الحضارة العربية

منطق التعصب

وهي أعمال لا تقدم إجابات نهائية، بقدر ما تفتح نوافذ للأسئلة الكبرى حول الحرية، والهوية، والعقلانية، وحدود المقدس.

الفيلسوف في مواجهة العاصفة

لم تكن مسيرة مراد وهبة الفكرية طريقًا ممهدًا أو آمنًا، بل كانت مليئة بالعواصف الفكرية والضغوط الاجتماعية والسياسية. فمنذ انحيازه الواضح للعقلانية النقدية، وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع تيارات محافظة ومتشددة رأت في أفكاره تهديدًا لمنظوماتها المغلقة. ولم يكن ثمن هذا الموقف بسيطًا، إذ تعرّض لحملات تشويه وتشكيك، وصلت في بعض مراحلها إلى اتهامات بالتغريب والطعن في الثوابت، وأحيانًا إلى مناخات قريبة من التكفير الرمزي.

وفي فترات مختلفة، واجه الفيلسوف المصري أشكالًا متعددة من المنع والتهميش، سواء عبر التضييق على حضوره الثقافي أو محاصرته إعلاميًا، في سياقات كانت تُكافأ فيها المهادنة ويُعاقَب فيها النقد الجذري. ومع ذلك، لم يتراجع وهبة عن مواقفه، ولم يسعَ إلى تقديم تنازلات فكرية تضمن له القبول أو السلامة، إدراكًا منه أن الفلسفة، بطبيعتها، تقف دائمًا في منطقة الاشتباك مع السائد.

كان مراد وهبة واعيًا بأن مشروع التنوير ليس نزهة فكرية ولا مكسبًا سريعًا، بل مسار طويل وشاق، محفوف بالخسائر الشخصية والعزلة أحيانًا. وقد عبّر مرارًا عن قناعته بأن التغيير الحقيقي في البنى الذهنية لا يحدث بين ليلة وضحاها، وأن مقاومة الفكر الظلامي تتطلب صبرًا تاريخيًا واستعدادًا لدفع ثمن الموقف، مهما بدا هذا الثمن باهظًا.

ومن هنا، لم ينشغل وهبة بالسعي إلى الشعبية أو الرواج، ولم يُغرِه التصفيق العابر أو الاعتراف المؤقت. فقد كان يؤمن بأن الفيلسوف الحقيقي لا يقيس نجاحه بعدد المؤيدين، بل بمدى التزامه بالحقيقة وبالضمير العقلي. وفي هذا المعنى، تبدو تجربة مراد وهبة نموذجًا للفكر الذي يختار الصدق على السلامة، والعقل على المجاملة، ويظل واقفًا في قلب العاصفة دون أن يفقد بوصلته.

مئوية تستدعي المراجعة

تحل مئوية ميلاد مراد وهبة في لحظة تاريخية شديدة التعقيد، تعود فيها إلى الواجهة الأسئلة الكبرى نفسها التي جعلها محورًا لمشروعه الفكري: علاقة الدين بالدولة، وحدود حرية التفكير والتعبير، ومصير العقلانية في مجتمعات تعاني من أزمات سياسية وثقافية واقتصادية متراكمة. وهي أسئلة لم تفقد راهنيتها، بل ازدادت إلحاحًا مع تصاعد الخطابات الشعبوية وتنامي النزعات الإقصائية التي تروّج لليقين السهل وتجرّم الشك.

وفي هذا السياق، تبدو مئوية وهبة فرصة لإعادة قراءة أفكاره خارج إطار التكريم الرمزي أو الاحتفاء البروتوكولي. فالرجل لم يكن صاحب نظريات مجردة، بل مفكرًا اشتبك بعمق مع واقع مجتمعه، وحاول أن يقدّم أدوات نقدية لفهم أزماته البنيوية. ومن ثمّ، فإن استدعاء تجربته اليوم ينبغي أن يكون مدخلًا لمراجعة خياراتنا الفكرية، لا مجرد استعادة لسيرة من الماضي.

كما تطرح المئوية سؤالًا ملحًا حول مصير مشروع التنوير نفسه في العالم العربي: هل تعثر لأنه كان نخبوياً؟ أم لأنه ووجه بعنف اجتماعي وسياسي؟ أم لأن المؤسسات التعليمية والثقافية عجزت عن تحويله إلى وعي عام؟ في هذا المعنى، تصبح أفكار مراد وهبة مرآة نرى فيها إخفاقاتنا بقدر ما نلمس فيها إمكانات لم تُستثمر بعد.

ومن هنا، لا تمثل المئوية احتفاءً بفيلسوف بقدر ما هي دعوة جماعية لإعادة فتح ملف التنوير، واستعادة شجاعة السؤال، والرهان على العقل في زمن يهرب من التعقيد إلى الشعارات، ومن التفكير النقدي إلى الاصطفاف الأعمى. إنها مناسبة للتذكير بأن مستقبل هذه المجتمعات لن يُصنع باليقين المعلّب، بل بالأسئلة الصعبة التي آمن بها مراد وهبة ودفع ثمنها دون تردد.

مراد وهبة.. الفيلسوف الذي لم يساوم

بعد مائة عام على ميلاده، يظل مراد وهبة واحدًا من القلائل الذين حافظوا على موقعهم الفكري دون أن يخضعوا لإغراءات السلطة أو ضغوط الجماعة. لم يساوم على العقل، ولم يبحث عن مناطق آمنة، ولم يبدّل مواقفه تبعًا لتقلبات السياسة أو صعود الخطابات الدينية الشعبوية. كان ثابتًا في انحيازه للتفكير النقدي، مدركًا أن الفيلسوف الذي يغيّر قناعاته طلبًا للقبول يفقد جوهر دوره قبل أن يفقد جمهوره.

ولم تكن مواجهته للتطرف مجرد موقف نظري، بل ممارسة فكرية يومية، عبّر عنها في كتبه ومقالاته ومحاضراته العامة. فقد رفض باستمرار منطق المهادنة مع العنف الرمزي، وواجه خطاب التكفير والإقصاء بحجة العقل والتحليل، لا بالصراخ أو التحريض المضاد. وفي زمن اختلطت فيه الأصوات وتراجعت فيه المسافة بين الفكر والدعاية، حافظ وهبة على لغته الهادئة والحاسمة في آن واحد.

وتتجاوز أهمية مراد وهبة كونه فيلسوفًا بالمعنى الأكاديمي، ليغدو ضميرًا نقديًا في المجال العام، يذكّر المجتمع بأسئلته المؤجلة، ويكشف مناطق العتمة في الوعي الجمعي. لقد كان صوته أشبه بجرس إنذار دائم، ينبّه إلى مخاطر تعطيل العقل وتحويل الموروث إلى سلطة نهائية لا تُناقش، وإلى النتائج الكارثية لغياب التفكير الحر في حياة الأفراد والدول.

وفي المحصلة، يقدّم مراد وهبة نموذجًا نادرًا للمثقف الذي اختار الحقيقة على السلامة، والعقل على التوافق، والسؤال على اليقين الجاهز. وبعد قرن على ميلاده، تبقى رسالته حاضرة بقوة: أن مستقبل هذه المجتمعات لا يُبنى بتكرار الموروث دون مساءلة، ولا بتقديس الأفكار لمجرد قِدمها، بل بقدرتها على إنتاج عقل حر، شجاع، ومسؤول.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق