في صباح اليوم، استيقظ الوسط الثقافي على خبررحيل الناشر محمد هاشم صاحب دار ميريت للنشر والتوزيع، ليصنع صدمة واسعة في الوسط الثقافي، فالرجل الذي رحل عن عمر يناهز 67 عامًا، بعد مروره بوعكة صحية حالته دون حضور حفل خطوبة ابنته، ليرحل بعد قليل من نشر هذا المنشور عبر صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي فيس بوك.
لم يكن "محمد هاشم" مجرد ناشر عادي، ولم تكن ميريت مجرد مقر لدار نشر تحمل بداخلها بعض الإصدارات، بل كانت ملتقى ثقافي، وفني، فكان على حسب وصف الشاعر "مصطفى إبراهيم" بعد رحلية، هو من عرف نصف مصر على نصفها الآخر، فكان صوتًا موازيًا لحركة ثقافية كاملة أعادت تعريف معنى النشر المستقل في مصر منذ نهاية التسعينيات.
وجاء اعلان رحيله الذي أورده الدكتور أحمد مجاهد المدير التنفيذي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب عبر منشور مقتضب على فيسبوك، فتح بابا من الأسئلة حول الإرث الذي تركه هاشم، والفراغ الذي سيتشكل برحيله داخل مشهد ثقافي عاش طويلاً على الحافة.
نشأة مبكرة صنعت مسارًا خاصًا
ولد محمد هاشم في طنطا عام 1958، في لحظة تاريخية كانت مصر خلالها تتشكل سياسيًا وثقافيًا، انتقل إلى القاهرة شابًا، وبدأ مسارًا مبكرًا في الكتابة والعمل الصحفي، قبل أن يغوص في العمل السياسي، ويتم اعتقاله عام 1979 بتهم الشيوعية وقلب نظام الحكم وإهانة رئيس الجمهورية.
هذا الاعتقال المبكر ترك أثرًا عميقًا في شخصيته، وأدخله إلى دائرة القلق الدائم، وهو ما يفسر بحسب مقربين منه مزاجه الحاد وقدرته الاستثنائية على المواجهة.، وبعد خروجه من السجن، غادر إلى الأردن متأثرًا بأحداث غزو لبنان 1982، وهناك عمل في مهن بسيطة وبدأ بكتابة القصص القصيرة، قبل أن يعود إلى القاهرة في نهاية 1986 ليبدأ العمل في دار المحروسة لمدة 12 عامًا، ويأخذ الخبر التي تجعله فيما بعد أن يبدأ مشروعه الخاص وهو انشاء دار ميريت.
جمعته صداقه كبيرة مع الجميع الكبير والصغير الأديب والشاعر، المثقف والثوري، صديق الجميع وكان من بين أبرز أصدقائه الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم ، وسيد حجاب، وعماد أبو غازي وإبراهيم عبد الفتاح ومصطفى إبراهيم، وإبراهيم داوود، وجمعته صداقه مع أغلب الناشرين، لاسيما الشباب منهم وعلى سبيل المثال الناشر شريف بكر، والفنانين ومنهم الفنان محمود حميده، فكانت مريت شاهدًا على الكثير من الاتفاقيات الفنية والأدبية، ومجمع لمثقفي مصر وفنانيها.
تأسيس ميريت.. الثورة الهادئة في النشر
في عام 1998، قرر محمد هاشم الانفصال عن دار المحروسة وتأسيس «ميريت»، هذا المكان ذو الطبع الخاص فلم تكن دار نشر بمعانها التقليدي، وإنما صرح ثقافي وملتقى تعارف وإنساني بين الجميع بل، كانت في كثير من الأحيان مكان لإجراء الحوارات الصحفية مع كبار الشعراء والمثقفين ومنهم أحمد فؤاد نجم، بل أيضًا هي تُعد بمثابة مكان لحرية التعبير، جاء اختيار اسم «ميريت» نسبة إلى الأميرة ميريت آمون وهي الابنة الرابعة للملك رمسيس الثاني وزوجته الملكة نفرتاري، وأصبحت هي الملكة بعد وفاة والدتها، كما كانت كاهنة للربة حتحور، وتتولى إقامة الشعائر لها، وتعني "ميريت" بـ "الحبيبة"، ومثلما كانت الأميرة ميريت أمون، أي "حبيبة أمون" ، كانت دار ميريت هي الحبيبة للناشر محمد هاشم فأعطاها كل ما يملك من وقت ومال وجهد، وكأنها الحبيبة، حتى أنه كان كثيرًا ما يبيت بمقر الدار، وكأنها أصبحت السكن والسكينة.
ومنذ تأسيسها، لعبت دار ميريت دورًا مؤثرًا في تشكيل جيل جديد من الكتاب المصريين. فقدمت أصواتا شابة صارت لاحقا من أهم كتاب الألفية الجديدة، ومنهم الشاعر مصطفى إبراهيم، ، وغيرهم الكثير، ولهذا يجمع الكثير من القراء والمتابعين على أن "هاشم" كان يمتلك قدرة نادرة على التقاط المواهب غير المرئية، وكان يغامر بنشر الأعمال الأولى دون تردد، في وقت كانت دور النشر الكبرى أكثر حذرًا، في هذا السياق.
ونشرت "ميريت "خلال العقدين الماضيين ما يزيد على 400 عنوان لكبار الكتاب والشباب على السواء، وشكلت مركزاً ثقافيًا يوميًا يستقبل أدباء وفنانين وصحفيين من مختلف التيارات.
الجوائز الدولية
فاز هاشم عام 2006 بجائزة «جيري لابير» لحرية النشر من اتحاد الناشرين الأميركيين، وهي جائزة تمنح لناشرين يتعرضون لضغوط سياسية أو رقابية، وفي 2011 حصل على جائزة «هيرمان كستن» الألمانية، التي تمنح للمدافعين عن حرية التعبير ، وهتان الجائزتان كشفتا أن ما كان على الأرض مجرد دار نشر صغيرة في وسط البلد، تحول في الخارج إلى نموذج مقاوم لرقابة الدولة وهيمنتها على صناعة الكتاب.
دار ميريت كمركز للاحتجاج
منذ 2004، ومع ظهور حركة كفاية، أصبحت دار ميريت أكثر من مجرد دار نشر مع الأيام تحولت إلى نقطة تجمع للسياسيين والأدباء والناشطين، ومع اندلاع ثورة يناير، كانت الدار مركزا لوجستيا للمتظاهرين بحكم موقعها القريب من ميدان التحرير، وكان يتم توزيع الأغذية والمشروبات والبطانين من خلالها، بالإضافة إلى فتح أبوابها للنشطاء والمتظاهرين من السيدات للمبيت، مثلما كان يفتح حزب التجمع أبوابه أيضًا.
وتعرض الناشر محمد هاشم في تلك الفترة للعديد من الضغوط بل، وصدر قرار بضبطه واحضاره، ما دفع رابطة الناشرين إلى تنظيم وقفة احتجاجية للتضامن معه، واستمرت الضغوط بعد ذلك، فتعرضت الدار لعمليات تفتيش ومصادرات وإغلاق متكرر عام 2015 على خلفية الكتب التي تنشرها الدار.
إنتاجه الأدبي
لم يكن هاشم ناشرًا فقط، فقد اصدر روايته الأولى «ملاعب مفتوحة» عام 2004، وهي رواية تحمل ظلالا واضحة من تجربته الشخصية، وتكشف حساسيته تجاه الحرية والهوية والقلق السياسي، ورغم أنه لم يواصل الكتابة الروائية الإنتاجية، ظل يحافظ على حضوره ككاتب مواقف.
حملة التضامن بعد رحيله
ومنذ اعلان وفاته، صباح اليوم تتابعت تدوينات النعي من كتاب وصحفيين وفنانين، اعتبر كثيرون رحيله خسارة لرمز ثقافي قل وجوده في المشهد المصري.
ومنشورات عديدة أشارت إلى دوره في حماية الكتاب الشباب، وجرأته في نشر عناوين كانت تتجنبها دور أخرى، وقدرته على تحويل دار صغيرة في شارع قصر النيل إلى مؤسسة ثقافية ذات تأثير واسع.
أثر وغياب
برحيل محمد هاشم تفقد الحركة الثقافية المصرية صوتا ظل طوال عقود متجها ضد التيار.
ولا يقتصر الأثر على شخصه، بل يمتد الى السؤال الاكبر: هل يمكن للدار الاستمرار في غيابه؟ فدار ميريت التي ظلت طوال سنوات جزءا من شخصية هاشم، تواجه اليوم اختبار البقاء بدون مؤسسها، خصوصا في ظل تراجع النشر الورقي ومناخ ثقافي وسياسي اكثر انكماشا.
وأخيرًا محمد هاشم لم يكن مجرد ناشر، كان ظاهرة، وحالة إنسانية متفرده، يحمل الحب للجميع، كان مشروعًا كاملًا من الأفكار والمواجهات والخيارات الشرسة، ترك وراءه دارا صنعت جيلا، ومسارا سيظل علامة في تاريخ النشر المصري، ورغم رحيله، يبقى السؤال الثقيل معلقا: من سيحمل شعلة ميريت؟













0 تعليق