قد يبدو غريبًا للبعض أن يكتب مسيحي مقالًا عن "دولة التلاوة"، لكن الحقيقة أن أصوات كبار المقرئين كانت دائمًا جزءًا من وجدان المصريين جميعًا، مسلمين ومسيحيين، فمنذ طفولتي كنت أستمع -بإعجاب ودهشة - إلى الشيخ محمد رفعت، والشيخ الحصري، والشيخ المنشاوي، والطبلاوي، وغيرهم من عمالقة مدرسة التلاوة المصرية، تلك المدرسة التى كانت وما زالت فنًا قائمًا على الإحساس، والرهافة، والروحانية التي تتجاوز الاختلافات وتصل مباشرة إلى القلب.
برنامج "دولة التلاوة" جاء ليعيد هذا المجد القديم إلى دائرة الضوء، وليثبت أن مصر- كعادتها - ولادة في كل المجالات، وأن أصوات المقرئين المصريين ما زالت قادرة على أن تتصدر العالم الإسلامي كله.
تجربة تؤكد الشغف الشعبي
استقبال اختبارات البرنامج لأكثر من 14 ألف متسابق من مختلف المحافظات ليس رقمًا عابرًا، بل هو مؤشر على حالة حقيقية من الشغف والبحث عن الفرصة، ولعل هذا الإقبال يعكس أن مدرسة التلاوة المصرية لا تزال حية وممتدة، وأن الأجيال الجديدة ما زالت تؤمن بقيم هذا الفن وجلاله.
التجربة التي جاءت بتعاون بين وزارة الأوقاف المصرية والشركة المتحدة للخدمات الإعلامية لم تكن مجرد مسابقة بقدر ما كانت مشروعًا لإحياء تراث صوتي وثقافي بالغ الأهمية، وبث دماء جديدة في فن الترتيل والتجويد.
تحفيز جاد ودعم غير مسبوق
جوائز البرنامج التي تصل إلى 3.5 مليون جنيه تعكس بوضوح جدية الدولة في دعم هذا الفن، فحصول الفائزين بالمركز الأول في فرعي الترتيل والتجويد على مليون جنيه لكلٍ منهما، إلى جانب تسجيل المصحف الشريف كاملًا بصوتيهما وبثه على قناة "مصر قرآن كريم"، ليس مجرد تكريم، بل إنه تمكين حقيقي لصوت جديد يدخل عالم التلاوة من أوسع أبوابه.
أما شرف إمامة المصلين في صلاة التراويح بمسجد الإمام الحسين، فهو تتويج رمزي وروحي يجعلهما امتدادًا لخط طويل من القامات الكبرى.
لجنة تحكيم تمثل ثقلًا علميًا وصوتيًا
يضم البرنامج نخبة من أبرز العلماء والمقرئين والخبراء، مثل الشيخ حسن عبدالنبى، والدكتور طه عبدالوهاب، والشيخ طه النعماني.
هذا إلى جانب ضيوف الشرف: الدكتور أسامة الأزهري، الدكتور نظير محمد عياد، الدكتور علي جمعة، والقراء الكبار أحمد نعينع، وعبدالفتاح الطاروطى، وجابر البغدادي، إضافة إلى قراء من خارج مصر مثل محمد أيوب عاصف وعمر القزابري.
هذا التنوع يمنح البرنامج مصداقية كبيرة، ويجعل عملية التقييم قائمة على العلم والخبرة والذائقة الصوتية الرفيعة.
فن أعاد تعريف معنى الجمال الروحي
من موقعي كمواطن مصري مسيحي، لم أشعر يومًا أن التلاوة تخص ديانة دون أخرى، فهي جزء من الهوية المصرية، من جمال اللغة، ومن الإرث الثقافي الذي تربّينا جميعًا عليه، وربما كان تأثير أصوات الشيوخ الكبار عليَّ في طفولتي أحد الأسباب التي جعلتني أرى في التلاوة فنًا خالصًا، يصل للروح قبل العقل.
أرى أن "دولة التلاوة" ليس مجرد برنامج مسابقات، بل هو مشروع وطني يعيد إلى الاذهان ما نملكه من كنوز صوتية وروحية، وهو أيضًا تأكيد جديد على أن مصر لا تزال قادرة على إنتاج المواهب وتقديمها للعالم، وأن الفن - أيًا كان مضمونه الديني - يظل قيمة إنسانية مشتركة.













0 تعليق