بعد نجاح زهران ممدانى.. وهم الرهان على «المرشح المسلم»

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ممدانى ونيويورك الشابة التى أربكت عقول العجائز

شهدت نيويورك ميلاد حكاية سياسية جديدة، بطلها شاب من أصول آسيوية، مسلم، اشتراكي، اسمه زهران ممداني، لم يكن صعوده إلى منصب عمدة المدينة مجرد فوز انتخابى عابر، بل كان علامة على تحوّل عميق فى وعى أجيال جديدة قررت أن تأخذ زمام المستقبل بيديها، وأن تكتب فصلًا جديدًا فى تاريخ المدينة التى لا تعرف النوم.

الفوز لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة سنوات من التراكم الاجتماعى والسياسي، ومعركة طويلة بين من يملك الخطاب ومن يملك الإحساس بالشارع، فالأجيال الشابة التى خرجت من رحم الأزمات الاقتصادية ومن بين دخان الاحتجاجات المناخية والعرقية، كانت تبحث عن صوت يشبهها، يتحدث بلغتها، ولا يخاف من الحلم، وجدت فى زهران ذلك الصوت المختلف، صوتًا يجمع بين وعى المهاجرين واندفاع الشباب، بين الانتماء إلى جذور آسيوية وبين الحلم الأمريكى الجديد الذى يعيد تعريف الحرية والمساواة من جديد.

حين أعلنت النتائج، تجاوزت نسبة التصويت كل التوقعات، وتدفّق إلى الصناديق أكثر من مليونى ناخب، فى مشهد غير مسبوق منذ عقود، كان نصف هؤلاء تقريبًا من الفئة العمرية دون الأربعين، شبابًا وشابات أصابهم الملل من وجوه السياسة القديمة ومن وعود لا تتحقق، لم يصوّتوا لحزب أو لشعار، بل لمستقبل يرونه بأعينهم، مستقبل يريد عدالة فى الإيجار، وعدالة فى الأجر، ومواصلات لا تسرق من جيوبهم نصف الدخل، كانت اللغة التى تحدث بها زهران بسيطة وصادقة، خالية من الزخارف الحزبية، تقترب من الناس فى مقاهى بروكلين كما فى مترو كوينز، وتضع يدها على جرح المدينة الحقيقى الغلاء والتمييز والإقصاء.

ما حدث لم يكن مجرد حملة انتخابية، بل حركة اجتماعية كاملة، زهران لم يشتَرِ اللوحات الإعلانية بمال الشركات، بل كسب وقت المتطوعين وقلوب الناس، كل بث مباشر على هاتفه، كل لقاء عفوى فى الشارع، كان بمثابة حجر جديد فى بناء الثقة بينه وبين المدينة، اعتمد على تبرعات صغيرة من آلاف الأشخاص، وليس على شيك ضخم من ممول واحد، وبذلك قلب قواعد اللعبة التى حكمت السياسة الأمريكية لعقود طويلة.

حين اكتسح زهران خصومه بنسبة تجاوزت نصف الأصوات، تململت النخبة السياسية، وشعر الساسة الكبار فى نيويورك وواشنطن بارتباك واضح، لم يكن مصدر الخوف فى فوزه كفرد، بل فى الرمزية التى يحملها باعتباره مسلم، آسيوي، اشتراكي، وصل إلى أحد أهم المناصب فى الولايات المتحدة عبر بوابة الشباب والتنوع، رأى فيه البعض نذير مرحلة جديدة تعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، وتضع فى الواجهة قوى كانت مهمّشة لسنوات طويلة.

خاف بعض الساسة من أن يصبح نموذج زهران قابلًا للتكرار، وأن تُفتح شهية الأجيال الشابة للمطالبة بقيادات تشبهها فى مدن أخرى، وارتبكت المؤسسات القديمة التى تعوّدت على التحالفات التقليدية، لأنها أدركت أن المال والنفوذ الإعلامى لم يعودا كافيين لضمان البقاء، لم تعد الحملات تُدار من غرف الفنادق الكبرى بل من هواتف صغيرة فى أيدى شباب يعرفون جيدًا كيف يحركون الناس بالكلمة والصورة والموقف.

لكنّ الخوف الأكبر كان من الهوية المركبة التى يمثلها زهران، فأن يكون عمدة نيويورك مسلمًا من أصول آسيوية، فهذا يفتح الباب أمام نقاشات جديدة فى بلد ما زالت تترسب فى ذاكرته رواسب قديمة من الشك والتمييز، بعض الأصوات حاولت منذ اللحظة الأولى أن تربط بين هويته الدينية ومواقفه السياسية، وكأنها تفتش عن ذريعة لتخويف الناس من القادم المختلف، غير أن زهران تعامل مع ذلك بذكاء، لم ينكر هويته ولكنه لم يجعلها محورًا للحملة، بل جعل جوهر خطابه إنسانيًا جامعًا، يقوم على فكرة الكرامة والعدالة والمساواة بين الجميع دون تمييز.

المدينة التى انتخبته كانت جاهزة لهذا التحول، فقد تغيّر وجه نيويورك كثيرًا فى السنوات الأخيرة، تزايدت أعداد المهاجرين والطلاب والعاملين فى قطاعات الخدمات، وصار صوت الأقليات أكثر وضوحًا، كما أن تكنولوجيا التواصل منحت الجيل الجديد قوة لم تكن متاحة من قبل، فصار بإمكانهم أن يصنعوا موجة رأى عام فى ساعات قليلة، وأن يردّوا على حملات التشويه بنفس سرعة انتشارها، تلك السرعة الرقمية كانت السلاح السرى الذى أوصل زهران إلى القمة.

أما النخبة القديمة، فقد وجدت نفسها أمام معادلة صعبة إما أن تتعلم لغة الشباب وإما أن تذوب خارج المشهد، لم يعد يكفى التلويح بالخبرة والروابط السياسية، جيل اليوم يبحث عن الشفافية والصدق، لا عن السيرة الذاتية، إنه جيل يتعامل مع السياسة كخدمة عامة لا كسلطة، ومع الزعيم كشريك لا كرمز مقدس، لذلك كان طبيعيًا أن يرى فى زهران صورة لنفسه شاب طموح، مؤمن بالتغيير، لا يخاف من المواجهة، ويعرف كيف يصنع الأمل من التفاصيل الصغيرة.

ومع ذلك، فإن الطريق أمامه ليس مفروشًا بالورود، إدارة مدينة مثل نيويورك تحتاج إلى عقل بارد وقدرة على التوازن بين الحلم والواقع، التحدى الأول أمامه سيكون كيفية تحويل شعارات العدالة الاجتماعية إلى سياسات عملية دون أن يصطدم بمؤسسات مالية واقتصادية عتيدة، التحدى الثانى هو الحفاظ على ثقة الشباب الذين أوصلوه إلى السلطة، لأنهم أكثر الفئات صاحبة المطااب وفى ذات الوقت هى أقلها صبرًا، أما التحدى الثالث، فهو التعامل مع النظرة القلقة التى تلاحقه من قبل القوى المحافظة، والتى ستنتظر أى خطأ لتقول «ها هو قد فشل».

لكن من يراقب المشهد عن قرب يدرك أن زهران ليس مجرد حالة فردية، بل هو انعكاس لزمن جديد يتشكل فى المدن الكبرى، حيث العرق والدين واللغة لم تعد حدودًا، بل مكونات لهوية أكثر رحابة، نيويورك التى أنجبت زهران هى نفسها التى أنجبت قبل عقود موجات من المهاجرين الذين صنعوا قوتها الاقتصادية وثقافتها الفنية، الجديد الآن أن هؤلاء المهاجرين وأبناءهم لم يعودوا فقط عمالًا فى البنية التحتية، بل صاروا صانعى القرار فى البنية السياسية.

لقد فاز زهران لأن جيلًا كاملًا قال كلمته، ولأن المدينة التى طالما كانت رمزًا للحلم الأمريكى قررت أن توسّع تعريفها للحلم. فبدل أن يكون الحلم امتلاك بيت فى ضاحية بعيدة، صار الحلم امتلاك صوت مؤثر فى إدارة المدينة نفسها، فى هذا المعنى، لم يفز زهران ممدانى وحده، بل فازت معه فكرة المستقبل المفتوح، وفاز الإيمان بأن السياسة يمكن أن تكون أخلاقًا وليست مجرد صفقات.

وربما كان أجمل ما فى هذا الفوز أنه لم يأت من فوق، بل من تحت، من الشوارع، ومن الأحياء الصغيرة، ومن طلاب الجامعات الذين آمنوا بأن التصويت ليس عبثًا بل وسيلة لبناء الغد، هؤلاء هم من صنعوا اللحظة، وهم من سيحمونها، لأنهم يعرفون أن المعركة الحقيقية لا تنتهى بصندوق اقتراع، بل تبدأ منه.

نيويورك تغيّرت، والعالم ينظر بدهشة إلى عمدة شاب يجمع بين الإسلام والاشتراكية والأصول الآسيوية والمواطنة الأمريكية، فى صورة تلخّص تحوّلًا إنسانيًا أعمق بكثير من مجرد سباق انتخابي، إنها قصة مدينة تجرأت أن ترى وجهها الحقيقى فى مرآة شاب اسمه زهران ممداني.

 

eb3ee5bec4.jpg
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق