مصيبة انتشار الأمية الثقافية أنها تستمد معلوماتها التاريخية من غير المتخصصين، بل وحتى من الأفلام والأعمال الدرامية التي غرضها الأول والأخير التسلية وتمضية الوقت. من هنا تأتي خطورة فيلم "عروس النيل" الذي جاء على بالي في إطار حالة الفرح الكبير التي عمّت مشاعر المصريين بافتتاح المتحف المصري الكبير. فيلم "عروس النيل" إنتاج عام 1965 بطولة لبنى عبد العزيز ورشدي أباظة، تأليف فايق إسماعيل، وحوار سعد الدين وهبة، وإخراج فطين عبد الوهاب.
يدور الفيلم حول سامي مهندس البترول "بتاع الجاز" الذي ينقب عن البترول في قلب المعابد الفرعونية، فتظهر له هاميس قادمة من عالم الفراعنة لتقع في حبه. وقصة الفيلم مسلية وتنتمي إلى الفانتازيا الجذابة، ولكنه يضم سمومًا كثيرة على رأسها أن هاميس آخر عروس للنيل، حيث يروج لأكذوبة تقول إن الفراعنة كانوا يلقون بعروسة للنيل في موسم الفيضان. يؤكد علم المصريات أن المصريين القدماء لم يستخدموا أبدًا الضحايا البشرية. وهي فرية ذكرت لأول مرة في كتاب "فتوح مصر والمغرب" لابن عبد الحكم، وهي أسطورة تقول بإلقاء فتاة في النيل كقربان لضمان فيضانه، على الرغم من عدم وجود أدلة أثرية تؤكدها، وتشير الدراسات إلى أن المصريين القدماء كانوا يلقون تماثيل في الماء بدلًا من البشر.
كما يقارن الفيلم في مشهد سخيف بين بناء الهرم وبناء المصنع، ويحقر من بناء الهرم بأنه غير مفيد على عكس المصنع. إن صوت هذا الفيلم الذي كنت أشعر تجاهه بأفكار بكره شديد ورفض منذ الصغر، رغم إعجابي بإخراجه، يتداخل مع أصوات شاذة ومنفرة تحقر من حضارتنا العظيمة وتكفر أبنائها، ولا ترى فيها إلا "هَباءً منثورًا"، وهي أصوات سلفية منكرة وأشد إزعاجًا من أصوات "الحمير"، يتصدى لها ملايين المصريين الذين وجدوا في تلك الحضارة المزدهرة مهربًا من واقع "منكوس" و"رديء". لذلك، هذا القطاع العريض يستحق أن يُدرس أبناؤه على مدى مراحل تعليمهم المختلفة، ولو ملخص شامل لكتاب عظيم هو كتاب "مصر أصل الشجرة" من تأليف سيمسون نايوفتس وترجمة أحمد محمود، لما تم إبراز الدور الحضاري العميق لمصر باعتبارها الجذر الأول للثقافة الإنسانية. وهو عمل يتكون من جزئين، ويركز على إبراز الدور الحضاري العميق لمصر ويكشف كيف امتدت تأثيراتها الفكرية والروحية إلى مختلف الحضارات القديمة، موضحًا أن مصر ليست فرعًا في تاريخ البشرية بل الأصل الذي انبثقت منه القيم والمعارف الأولى. أذكر في زيارتي لمدارس في ألمانيا وأمريكا فؤجئت بتدريس الحضارة المصرية القديمة للطلاب في مراحل مختلفة في كتاب شديد الإبهار والجمال. فلماذا نصر على الاحتفاء بصوت وفكر "بتاع الجاز"؟
إفيه قبل الوداع:
رجل من العوام اندهش من الموميات الذهبية للفراعنة فتساءل: "كيف تحولوا إلى ذهب بعد أن ماتوا؟"
فرد المرشد عليه: "الناس معادن، ودول معدنهم ذهب".











0 تعليق