في عمق الشتاء صيف (5)

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم يكن الرحيل هروبًا، بل نجاةً طويلة الأمد، رحلت لأن البقاء صار موتًا بطيئًا، ولأنها أدركت أخيرًا أن الحب لا يكون قيدًا، وأن الرحمة لا تعني الاستسلام للأذى؛ رحلت لا في لحظة ضعف، بل في ذروة الوعي، هي التي أغلقت الباب هذه المرة، لا لأنه أغلقه في وجهها، بل لأنها لم تعد تريده مفتوحًا.

كان النرجسي يظن أنه صاحب القرار دائمًا، اعتاد أن يرحل ليعود، وأن يجرح ليعتذر، وأن يهدم ليُعيد البناء بيده كي يبقى هو مركز الحكاية؛ لكنها للمرة الأولى، أنهت الفصول بنفسها؛ تركت كل شيء خلفها؛ بيته، صوته، صوره، وحتى ظلّه الذي ظلّ طويلًا يتربص بها في الزوايا.

ولأن النرجسي لا يحتمل أن يُهزَم، بدأ بخطته القديمة الجديدة؛ تشويه السمعة، لكن المفاجأة كانت أن هذه المرة لم يجد جمهورًا يُصفّق له، كل من عرفها عن قرب، رأى الحقيقة بوضوح، وقرأ الأكاذيب من سطور صمته هو، لم يصدق أحد روايته الملفقة، بل وقفوا بجانبها، دعمًا وإيمانًا بها.

كانوا مرآةً صادقة تذكّرها بأنها ليست ما يقول عنها، وأنها لم تكن يومًا كما حاول أن يُقنعها؛ كما يقول «ريتشارد غرانون» في كتابه «Narcissistic Abuse Recovery Journal»: حين لا يستطيع قتلك، يحاول قتل صورتك.

لكنه فشل في ذلك؛ لم تمت صورتها، بل ازدادت وضوحًا، خرجت من بين أنقاض العلاقة أنقى، وأصدق، وأقوى، كل كلمة تشويه كانت كحجرٍ يُرمى في نهرٍ جارٍ، لا يغيّر مساره بل يفضح من رماه.

أصدقاؤها، زملاؤها، وأولئك الذين لمسوا جوهرها الحقيقي، لم يتركوا لها فرصة للانكسار؛ احتضنوها في ضعفها، أعادوها إلى ذاتها، شجعوها على الوقوف مجددًا، وعلى ألا تلتفت وراءها مهما حاول أن يُغريها بالعودة أو يُرعبها بالانتقام، كانوا شهودًا على رحلتها من الجحيم إلى الضوء.

وحين اشتد الصخب، قررت أن تُطفئ كل الأصوات؛ سافرت بعيدًا إلى أوروبا، حيث لم يعرفها أحد، وحيث لم يبقَ سوى صداها الداخلي؛ تنقّلت بين المدن والبلدان، تحمل حقيبة صغيرة وقلبًا يتعلم كيف يهدأ؛ هناك، في البعد، استعادت أنفاسها الأولى.

في المسافات الطويلة بين القطارات والمطارات، كانت تتعلم معنى «الرحيل الكامل» أن تغادر لا المكان فقط، بل فكرة العودة نفسها، كما تقول «ميلاني تونيا إيفانز» في «Freedom from Narcissistic Abuse»: حين تغادر ضحية النرجسي بوعيٍ كامل، لا تتركه فقط، بل تترك جزءًا من نفسها كان أسيرًا له.

لم يكن الطريق سهلًا؛ كان يتعقبها من بعيد، يرسل الرسائل، يستعطف، يهدد، يتوسل، يتقمص كل الأدوار التي عرف أنها تضعفها؛ لكنها هذه المرة لم تُصغِ؛ كانت تسمع صوته وكأنها تسمع صدى رجلٍ مات في ذاكرتها منذ زمن؛ لم يعد يملك عليها سلطة، ولا على حنينها.

أدركت أن الخنجر الذي حاول به طعنها في الظهر، لم يصبها بل ارتدّ عليه، فلم تعد في مكانٍ يمكن الوصول إليه، لا جغرافيًا ولا نفسيًا، لقد عبرت الجسر الذي لا عودة منه؛ كما تقول الدكتورة «راماني دورفاسولا» في كتابها «Should I Stay or Should I Go»: حين يبدأ النرجسي بتشويه صورتك، فهو في الحقيقة يحاول حماية صورته هو.

كانت تبتسم حين تتذكر ذلك؛ لم تعد بحاجة لتفسير ما حدث لأحد، ولا لإقناع العالم ببراءتها. يكفي أنها تعرف حقيقتها، وأنها لم تعد تخاف من ظله، وفي البعد البارد لتلك المدن الأوروبية، ولدت نسختها الجديدة؛ هادئة، ناضجة، تقف على قدميها وحدها، لا تنتظر إنصافًا من أحد.

لقد انتصرت؛ لا لأن العالم صدّقها، بل لأنها صدّقت نفسها أخيرًا؛ لا لأنها نجت من شرّه، بل لأنها لم تعد تُعيد تعريف ذاتها بناءً على نظرته إليها؛ لقد رحلت، ونفذت قرارها الكبير، رغم محاولاته العديدة لإعادتها إلى اللعبة، لكنها هذه المرة لم تكن جزءًا منها بعد الآن.

وكما تقول «سارة نايت» في «The Life-Changing Magic of Not Giving»: أحيانًا يكون أكبر انتقام هو أن تتوقف عن المشاركة في اللعبة، وهكذا، أغلقت خلفها الباب الأخير، ومشت بخطى ثابتة نحو الغياب.

لم تعد تُفكر فيه، ولا فيما خسره، بل فيما استعادته هي: كرامتها، وهدوءها، وإيمانها بأنها تستحق حياةً نظيفة خالية من السُمّ؛ ورغم كل ما تجاوزته، حين أُغلقت الأبواب خلفها وسكتت الأصوات، وجدت نفسها وجهًا لوجه مع الصمت.

لم يعد هناك من يطاردها، ولا من يفسّر عنها، ولا من يشوّه صورتها، لكنها أيضًا لم تجد من تملأ بهم الفراغ، كان الليل في المدن البعيدة طويلًا وباردًا، والشوارع المضيئة لا تشبه ضوء قلبها الذي خبا قليلًا، تسير بين الزحام كأنها تسبح في غربةٍ من نوعٍ آخر؛ غربة داخل السلام نفسه.

هناك، في تلك اللحظة التي يتوقف فيها كل شيء، يبدأ شيء آخر في النشوء، الوحدة لم تكن الهزيمة التي خافتها، بل كانت المسافة الضرورية بين ما كانت عليه وما ستصبحه، وكما تقول «كلاريسا بنكولا إستس» في كتابها «Women Who Run With the Wolves»: العزلة ليست هزيمة، بل مسافة كافية لاستعادة صوتك.

وهكذا، تبدأ الحكاية التالية؛ لا عن الهرب من النرجسي، بل عن اللقاء مع الذات، في مدينةٍ مزدحمةٍ لا تعرفها، وبين وجوهٍ لا تناديها باسمها، حيث الغربة تتحول من وجعٍ إلى وعي، وهناك فقط ستبدأ.. يتبع.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق