لم يكن غيابه راحة، ولا عودته وعدًا بالحب من جديد. عاد كما يعود العاصف إلى المدينة بعد أن خلّف وراءه الركام، لا ليُرمّم ما تهدّم، بل ليتأكد أنه ما زال يملك القدرة على تحريك الغبار من مكانه.
ظهر بصوته الذي يعرف جيدًا كيف يتسلل إلى الذاكرة، بنبرةٍ دافئة، وعباراتٍ محسوبةٍ بعناية، تتحدث عن «الاشتياق» و«الندم» و«الذكريات الجميلة» وكأنها مفاتيح يعيد بها فتح الأبواب التي أُغلقت بصعوبة.
كانت تعرف أن شيئًا ما خلف هذا الهدوء، أن تلك الكلمات ليست اعتذارًا، بل خطة عودة مقنّعة بالندم.
وكما يصف «جاكسون ماكنزي» في كتابه «Psychopath Free»: حين يعود المؤذي، لا يعود ليرى كيف حالك؛ بل ليتأكد أنكِ ما زلتِ هناك، تمنحينه الأهمية التي يقتات عليها.
كلماته لم تكن جديدة، لكنها أتت هذه المرة مغلّفة بحنين مصطنع، كأنها موسيقى مألوفة تُعزف على جرحٍ قديم. بدأ حديثه عن الأيام الأولى، عن ضحكتها، عن تفاصيلٍ صغيرة لم تكن تعني له شيئًا حين امتلكها، لكنها اليوم وسيلته لإعادة اختراق أسوارها.
كان يتحدث عن «الاهتمام» وكأنه يُعيد تعريفه، وعن «الحب» وكأنه يُنقّيه من ماضيه المسموم، بينما كانت عيناه تحملان ذات اللمعان الذي رافق أول فخّ نصبته الأوهام.
في داخله، لم يكن الحب ما يحركه، بل حاجته للسيطرة. كان يريد أن يتأكد أنه ما زال في موقع السلطة العاطفية، وأنها مهما حاولت المضيّ قدمًا، يظل نقطة ضعفها الأقوى، أو بالأحرى، ملكيته القديمة التي لا يحتمل أن تتحرر.
وكما تقول «ساندرا براون» في كتابها «Women Who Love Psychopaths»: النرجسي لا يشتاق إليكِ، بل يشتاق إلى السيطرة التي كان يملكها عليكِ. كانت تعرف تلك اللغة جيدًا؛ لغة الرسائل المبطّنة التي تبدأ بعبارة «اشتقت لك»، وتنتهي بعودة الفوضى القديمة.
كانت الكلمات تطرق أبواب الحنين، لكنها لم تكن بريئة. كل كلمة كانت تُعيدها خطوة إلى الوراء، نحو الحفرة التي تسعى للهروب منها. هو لا يعود حبًا، بل ليُنعش سلطته القديمة.
إنه اختبار جديد.. هل ما زالت تضعف أمام كلماته؟ هل ما زالت تبحث في صوته عن الطمأنينة؟ هل يمكنه أن يعيد تشغيل اللعبة ذاتها دون أن يبدّل القواعد؟.
ومع ذلك، كان في داخلها صراع خفيّ. فالقلب، رغم وعيه، يحنّ أحيانًا إلى ما يؤذيه. ذلك الخليط الغريب من الذكريات والوجع والفضول والشفقة، هو ما يجعل كثيرين يسقطون مجددًا في فخّ العودة.
كما يوضح «روس روزنبرغ» في كتابه «The Human Magnet Syndrome»: أكثر لحظات ضعف الضحية هي لحظات الرحمة، فهي البوابة التي يعبر منها النرجسي من جديد.
كان يعرف تمامًا كيف يلعب على تلك الأوتار. لم يطلب شيئًا مباشرة، لكنه ترك كلماته تُحوم حولها مثل دخانٍ خفيف، يعرف أنه سيتسلل ببطءٍ إلى قلبها. يسأل عن صحتها، عن العمل، عن الأولاد، ثم يترك صمته الطويل بعد كلمة «اشتقت»، كأنه يفتح الباب ويمضي، منتظرًا منها أن تدخله من جديد.
لكن شيئًا تغيّر هذه المرة، لم تعد تلك المرأة التي كانت تبرر له الألم باسم الحب. لم تعد تلك التي تقف بين الحيرة والرجاء. لقد تعلمت أن العودة إليه ليست عودة إلى الماضي، بل سقوطًا جديدًا في نفس الحفرة بأسماءٍ مختلفة.
كانت تسمع صوته بعينٍ جديدة، بعينٍ تعرف أنه لا يحنّ إليها، بل إلى سلطته القديمة، إلى الصورة التي كان يراها فيها. كما تقول «ليندا هيل» في كتابها «Recovery from Narcissistic Abuse»: حين ترى النرجسي بعين الوعي، يفقد سحره، لأن ما يضيئه ليس الحب بل التلاعب.
ذلك الإدراك كان كالنور الذي يتسلل ببطءٍ بعد ليلٍ طويل، لم تعد كلماته تُربكها، ولم يعد صمته يخيفها، ولم يعد غيابه يُحدث فراغًا في حياتها. اكتشفت أن النجاة الحقيقية ليست في الانفصال الجسدي فقط، بل في التحرر النفسي الكامل، في ألا تترك له أي مساحة داخل ذاكرتها أو قلبها أو حتى حنينها.
في تلك اللحظة، لم تكن تنتصر عليه، بل على ضعفها القديم؛ ذلك النصر الهادئ الذي لا يحتاج إلى صراخٍ ولا إلى مواجهات، فقط إلى يقينٍ داخليّ بأن الصفحة طُويت، وأن الحكاية التي حاول أن يُعيد كتابتها انتهت بلا عودة.
لكن النرجسي لا يرحل بسهولة، ففي صمته القادم، كان يُخطط لجولة جديدة من التلاعب، بوجهٍ مختلف هذه المرة، وبطريقةٍ أكثر دهاءً، فالنهاية بالنسبة له ليست نهاية، بل استراحة مقاتل يتهيأ للهجوم القادم.
وهكذا تُغلق هذه الحلقة، لا بنهاية، بل ببداية خفية تُلوّح في الأفق، بداية فصلٍ جديد من اللعبة القديمة، حين يتحوّل الصمت إلى سلاح، والمراقبة من بعيد إلى مرحلة أكثر خطورة.
هناك فقط، ستبدأ الحلقة الخامسة من هذه الرحلة الطويلة، حين يدرك النرجسي أن السيطرة يمكن أن تتخذ شكلًا آخر، أكثر خفاءً، وأكثر قسوة.. يتبع.















0 تعليق