في الشهور الأخيرة، تحول التحالف التاريخي بين الجانبين الإسرائيلي والأمريكي من “شراكة استراتيجية مطلقة” إلى “وصاية أمريكية حذرة”، فقد وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحذيراً علنياً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ملوحاً بوقف المساعدات العسكرية إن مضت تل أبيب في ضم أجزاء من الضفة الغربية أو عرقلة المرحلة الثانية من خطة السلام في غزة، التي تقضي بإدارة مدنية متعددة الأطراف بمشاركة مصر وقطر والأردن.
حيث باتت واشنطن تنظر إلى إسرائيل كعبءٍ دبلوماسي يهدد جهودها لإعادة هندسة الاستقرار الإقليمي، في ظل تراجع التعاطف الشعبي الأمريكي مع تل أبيب وازدياد الانتقادات داخل الكونجرس لسلوكها العسكري في غزة. وفي المقابل، برزت مصر كقوة اتزانٍ دبلوماسي، استطاعت من خلال قمة شرم الشيخ الدولية للسلام ووساطتها في تثبيت الهدنة، أن تعيد تموضعها كـ"عقدة توازن" بين واشنطن وتل أبيب. كما استضافت القاهرة اجتماعاً للفصائل الفلسطينية، أسفر عن اتفاق مبدئي لتشكيل لجنة وطنية موحدة لإدارة المرحلة الانتقالية في غزة، تحت ضمانة مصر ومراقبتها لترتيبات الأمن والإعمار.
من شراكة مطلقة إلى وصاية أمريكية
تبدو إدارة الرئيس ترامب الثانية أكثر ميلاً إلى كبح جماح إسرائيل، فبعد أن تحولت حكومة نتنياهو إلى مصدر إرباك سياسي عبر إصرارها على ضم أجزاء من الضفة الغربية وعرقلة خطة السلام الأمريكية، انتقلت واشنطن إلى مرحلة “الوصاية السياسية” من خلال ربط المساعدات العسكرية والمالية بشروط واضحة تتعلق بضبط السلوك الإسرائيلي. ما يعبر عن تغير في فلسفة التحالف الأمريكي الإسرائيلي ذاته؛ من علاقة قائمة على الإيمان المطلق بـ “أمن إسرائيل أولاً” إلى علاقة تعاقدية تخضع لمعادلات المصالح الأمريكية المباشرة.
وقد تجلى ذلك بوضوح في “صفعة ترامب” العلنية لنتنياهو، حين حذر من أن “أي خطوة أحادية جديدة في غزة أو الضفة تعني خسارة الدعم الأمريكي”. حيث أن هذه اللهجة لم تستخدم ضد إسرائيل منذ عقود، وتعكس انتقال واشنطن من موقع الحامي إلى موقع الرقيب، ما يجعل التحالف ذاته يعيش اختباراً بين الولاء التاريخي والهيمنة السياسية.
اختبار الولاءات وحدود النفوذ
تُعد خطة ترامب لإنهاء الحرب في غزة نقطة الافتراق الأكثر عمقاً بين الطرفين. فبينما تضغط واشنطن لتطبيق مرحلة انتقالية بإدارة مدنية متعددة الأطراف تضم مصر وقطر والأردن، ترفض إسرائيل التخلي عن السيطرة الأمنية، معتبرة أي إشراف خارجي انتقاصاً من “سيادتها”. غير أن الموقف الأمريكي الصارم في هذا الملف لا ينطلق فقط من الرغبة في إنهاء الحرب، بل من قناعة بأن استمرار النهج الإسرائيلي الحالي يقوض النفوذ الأمريكي ذاته في المنطقة ويمنح القوى الدولية الأخرى -وفي مقدمتها الصين وروسيا- فرصة للتمدد في الفراغ الاستراتيجي.
هنا، تكشف القاهرة عن مهارة دبلوماسية، إذ تتعامل مع الطرفين بمنطق “الوسيط العاقل”، فبينما تبدي التزاماً واضحاً بخطة السلام الأمريكية، تحتفظ بقنوات اتصال مباشرة مع إسرائيل والفصائل الفلسطينية، ما يجعلها الطرف الوحيد القادر على ترجمة الخطط النظرية إلى ترتيبات واقعية.
اهتزاز شرعية التحالف
يواجه اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة أزمة شرعية داخل المجتمع الأمريكي نفسه، إذ تكشف الاحتجاجات في الجامعات والمدن الكبرى، وحملات المقاطعة الواسعة ضد المؤسسات الداعمة لتل أبيب، عن تحول في المزاج الشعبي الأمريكي من “دعم أعمى” إلى “تردد أخلاقي” تجاه الحرب في غزة. بل إن الكونغرس -سيما أجنحة الحزب الديمقراطي- بدأ يظهر مواقف ناقدة لممارسات إسرائيل العسكرية. ما دفع إدارة ترامب إلى تقييد السلوك الإسرائيلي خشية تفاقم الانقسام الداخلي واهتزاز صورة التحالف التقليدي.
وفي مؤشرٍ على تراجع الثقة، قام الجيش الأمريكي بتسيير مسيرات استطلاع فوق غزة لمراقبة التزام إسرائيل بالهدنة، في دلالة على انتقال العلاقة من “تحالف يقوم على الثقة” إلى “شراكة تحت الرقابة”، وتكرس هذا المسار عبر الزيارات المتلاحقة لمبعوثين أمريكيين رفيعي المستوى -كجاريد كوشنر وريتشار ويتكوف وجي دي فانس وماركو روبيو- والتي بدت أشبه بـ“دوريات دبلوماسية” لضبط اندفاعات اليمين الإسرائيلي ومنع خطوات أحادية في الضفة وغزة. في فلسفة معتادة للقوى العظمى التي تراقب حلفاءها كما تراقب خصومها.
إجمالاً، أظهر المشهد أن واشنطن لم تعد تملك أدواتها القديمة للسيطرة الكاملة على سلوك إسرائيل، وأنها مضطرة للاعتماد على شركاء إقليميين أكثر مصداقية مثل مصر، لضمان تنفيذ التفاهمات الميدانية دون انفجار جديد.
القاهرة ميزان الاتزان
في ظل ارتباك العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، اعتمدت القاهرة على النفوذ الهادئ والقدرة على بناء توافقات. قمة شرم الشيخ الدولية للسلام التي جمعت الأطراف المتنازعة برعاية مصرية، كانت تجسيداً لهذا النهج؛ إذ نجحت مصر في تثبيت وقف إطلاق النار، ودفعت الأمم المتحدة إلى الإشراف على المرحلة الانتقالية في غزة بمشاركة مصرية عربية فاعلة.
وكانت القمة ترجمة لإدراك واشنطن نفسها لحاجتها إلى مصر، فبينما تتراجع الثقة الأمريكية في حليفها الإسرائيلي، تزداد الحاجة إلى القاهرة كوسيط يضمن تطبيق الخطط الميدانية ويمنع انهيار التوازن الهش في المنطقة، رافضة الانجرار إلى محاور القوة المتصارعة، وثبتت لقدرتها على إدارة التناقضات دون أن تتحول إلى طرف فيها.
بهذا المعنى، يمكن النظر إلى السياسة المصرية الراهنة كفن من فنون الردع الهادئ؛ فالقاهرة ترد على فوضى الحلفاء بممارسة دبلوماسية “الانضباط الاستراتيجي” التي تكسبها احترام القوى الكبرى دون أن تفقدها استقلال قرارها.
تأييد أوروبي للتحرك المصري
جاءت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى بروكسل في 22 أكتوبر 2025 لتؤكد اتساع نطاق التحرك المصري من الإطار الإقليمي إلى الأوروبي، حيث التقى بقيادات الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لبحث ترتيبات إعادة إعمار غزة وآليات ضبط الأمن البحري في شرق المتوسط. وهدفت الزيارة إلى تأمين دعم أوروبي سياسي وتمويلي لخطة “الإدارة المدنية المتعددة الأطراف” التي تساندها واشنطن وتتبناها القاهرة، بما يجعل مصر محور التنسيق بين الغرب والعرب في إعادة صياغة التوازن الإقليمي بعد الحرب. ما يرسخ امتلاك القاهرة شرعية ميدانية من الفصائل الفلسطينية، وغطاءً دولياً من أوروبا والولايات المتحدة، ويمنحها ثقلاً متزايداً في إعادة هندسة معادلة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط.
مجمل القول، في ظل تآكل الثقة بين واشنطن وتل أبيب، تبدو القاهرة كفاعل يمتلك قدرات دبلوماسية وجيوسياسية تؤسس لجسور من الاتزان والحكمة وتجعل مصر أكثر الأطراف قرباً من منطق “السلام”، وتبقى مهندساً صامتاً لإعادة بناء ميزان جديد في المنطقة.














0 تعليق