هل يمكن أن تظلّ إنسانًا وأنت تشاهد امرأة تُهان أمامك؟.. هذا السؤال يطرحه "لاسلو كراسنا هوركاي" في روايته المقلقة حتى الوجع كآبة المقاومة،في هذه الرواية لا ينتظر السؤال إجابة، لأن كل شيء هناك يقع خارج المألوف… لا نظام، لا خلاص، لا براءة، وكل تفصيلة فيها تتحوّل إلى مرآة تُريك وجهك الحقيقي حين تسكت، حين تمرّ بجوار الألم وكأنه لا يعنيك!.
إن قراءتها ليست مجرّد دخول إلى عملٍ أدبي، بل دخول إلى اختبارٍ أخلاقي… اختبارٍ يضع القارئ نفسه موضع المتفرّج المتواطئ، الذي يرى ولا يفعل، أو على الأقل لا ينفعل.
الفائز بجائزة نوبل للأدب هذا العام"لاسلو كراسنا هوركاي" لا يكتب من أجل أن تُسلي نفسك بالقراءة، بل ليهزّك من الداخل، ويمسك بتلابيب أفكارك، ويدخلك في أدقّ تفصيلة من تفاصيل كل حدث.
ثم ما معنى أن تقرأ ولا تشعر برعب السيدة "بلوف" في هذا القطار المزدحم، ولا تسمع بأذنيك استغاثتها وصراخها المكتوم في أعماقها...؟ يا سيدي، الرواية ليست عن بلدةٍ صغيرةٍ تصلها عربةٌ غامضة تحمل جثة حوتٍ ضخم وسيركًا متنقلًا… إطلاقًا.فالسيرك اعتاد عليه الناس، ولكن حضور الغرباء، وانفجار الغرائز المكبوتة، وانهيار الحدود الدقيقة بين الخوف والرغبة، واضطراب المدينة بصورةٍ لم تحدث من قبل…ذلك هو لبّ الرواية.
فمثلًا، في أحد أكثر مشاهد الرواية كثافةً، تركّز الكاميرا على السيدة "بلوف"، المرأة الهادئة التي تجد نفسها في قطارٍ مزدحم، وجهًا لوجه أمام رجلٍ وقحٍ، غير حليق، وصامتٍ على نحوٍ غريب، يعبّ البراندي ذا الرائحة الواخزة من زجاجةٍ في يده.
كانت السيدة "بلوف" لا ترتدي سوى قميصها وسترةٍ صغيرة فوقه.
ومن هنا، ارتعدت وشعرت بتهديد نظراته، وازداد خوفها لإدراكها أن شيئًا ما سيحدث،فنظرات الرجل لم تكن بريئة، بل نهمة ووقحة، وكأنها تأكلها بتلذّذ.
"أصابها ذعر آخر لإدراكها أن هذا الشخص الذي تفوح منه رائحة البراندي الرخيص قد لا يريد شيئًا، إلا أن يحقِّرها ويسخر منها ويهينها ثم يرميها ضاحكًا مثل خرقةٍ عتيقة"!.
ولا تحتاج السيدة "بلوف" إلى أن تُمسّ كي تُهان؛ يكفي أن تُرى بعينٍ ملوّثة.
"فلم تفاجئها أبدًا رؤية عيني الرجل لا تزالان مثبتتين عليها.. عينان غمزتا لها غمزة تواطؤ، كأنهما انتبهتا إلى سوء حظِّها السخيف. أدركت السيدة بلوف -إدراكًا جيِّدًا جدًّا- ما سيحدث بعد ذلك؛ إلا أن هذا الحدث القاتل أزعجها كثيرًا، فلم تستطع شيئًا غير أن تظلَّ جالسةً متيبِّسة أكثر من ذي قبل في ذلك القطار الذي راحت حركته تزداد سرعةً. أحسَّت بالعجز أيضًا، وتوهَّج خدّاها حرَجًا، لأنها وجدت نفسها مضطرَّة إلى معاناة نظرة الفرح الخبيث في تلك العينين الواثقتين الناطقتين بالازدراء".
إن المبدع "لاسلو كراسنا هوركاي" لا يستخدم الجسد ليغري القارئ، بل ليورّطه في قسوة النظرة؛ في كيف تتحوّل الأنثى إلى كائنٍ يرى نفسه بعين المعتدي عليه!.
"كانت تلك هي الفكرة التي عبرت ذهنها. وكان ذلك كأن الرجل غير الحليق قد اغتصبها حقًّا..." وكما في أغلب روايات الكاتب "لاسلو كراسنا هوركاي"، لا يحدث الحدث خارج الذات، بل في عمقها.
والتساؤل الدائم: ما الذي يجعل الإنسان متواطئًا مع القسوة؟ وكيف يتحوّل الخوف من الآخر إلى احتقارٍ للذات؟
في هذا السياق، لا تكون كآبة المقاومة روايةً عن الانهيار فقط، بل عن العجز عن الفعل…شخصياتها لا تملك مقاومةً حقيقية، بل تمارس نوعًا من التأمل الحزين في سقوطها، كأنها تدرك أن كل محاولة إنقاذ صارت متأخرة.
هذا الكاتب الكبير يجعلنا جميعًا مذنبين بالصمت، متواطئين مع الرجل الذي التهم السيدة "بلوف" بنظراته الوقحة، وسبّب لها انهيارًا نفسيًا جعلها تشعر بأنه اغتصبها بعينيه.
وهكذا تبقى روايته، بعد عقود من صدورها، تُحاكمنا جميعًا، فكل من شاهد ولم يتحرك… صار جزءًا من الجريمة،إنها تذكيرٌ بأن الخراب الأكبر ليس ما يحدث على الأرض، بل ما يحدث في أرواحنا حين نغضّ البصر عمّا حدث لـ"السيدة بلوف"... أو عن أي فعلٍ شائنٍ يُرتكب أمامنا، فننطفئ ببطء، ونصير شهودًا على تلاشي إنسانيتنا الحقيقية!.
نلتقي الأسبوع القادم، بإذن الله، مع قراءةٍ جديدة وكتابٍ مختلف












0 تعليق