في عمق الشتاء، صيف. (3)

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم يكن الانكسار صاخبًا، بل هادئًا إلى حدٍّ مخيف، كانت لا تزال تراه كما رأته أول مرة؛ هادئًا، واثقًا، يملك القدرة على ترتيب فوضاها بكلمة، ويُقنعها بأنها في أمان، لكن شيئًا ما كان يتغيّر في الخفاء، كأن ملامح المشهد بدأت تتبدل، وشيئًا من الضوء الذي كان يحيط به صار يؤلم عينيها كلما نظرت إليه.

بدأت اللعبة.. لعبةُ المرايا التي يعيد فيها رسم صورتها كما يشاء، لا كما هي، في كل مرة كانت تقول فيها «لم أقل هذا»، كان يبتسم بتلك النظرة الباردة ويهمس: «ذاكرتك تَخونكِ».

وفي كل مرة تُحاول أن تثبت شيئًا من الحقيقة، كان يزرع في كلماتها شكًا صغيرًا، يتركه هناك لينمو ببطء في عقلها حتى تبدأ هي بالتساؤل: «هل أنا المخطئة؟ أم أنني أتوهّم؟».

كان يعرف جيدًا كيف يُعيد تعريف الواقع، يُعيد ترتيب الأحداث، يغيّر سياقها، ينسج الأكاذيب بخيوط من منطقٍ زائف، حتى تغدو الحقيقة مثل لوحةٍ تاهت ملامحها في الضباب، لم يكن يصرخ أو يهدد.

بل كان يستخدم سلاحًا أخطر: الهدوء القاتل، والابتسامة التي تُفرغكِ من ثقتكِ بنفسكِ دون أن تدرِي، كما تكتب الدكتورة «ستيفاني ساركيس» في كتابها «Gaslighting Recognize Manipulative and Emotionally Abusive People»: التلاعب لا يحتاج إلى صراخ، بل إلى تكرار هادئ يزرع الشك في داخلك حتى تبدأ في رؤية نفسك بعينيه.

كانت هي تُدافع عن عقلها أكثر من دفاعها عن كرامتها، كانت تشعر بأن أفكارها تُسرق منها ببطء، وكأنها غريبة عن ذاتها؛ كل مرة تواجهه بشيء من الحقيقة، يُحوِّل المواجهة إلى اتهام، فيغدو الحقُّ ذنبًا، والوضوحُ عنادًا، والوعيُ تمرّدًا غير مبرر.

يقول «جاكسون ماكنزي» في كتابه «Psychopath Free»: أسوأ ما يفعله النرجسي ليس الكذب عليك، بل جعلك تشكّ في نفسك حتى عندما تكون الحقيقة أمامك.

تعلّمت أن الصمت أحيانًا أهون من الجدل، وأن الانسحاب من النقاش ليس ضعفًا، بل حماية من الجنون؛ ومع ذلك، كان الصمت في حضرته يُشعل عاصفة جديدة، إذ يفسره كرفضٍ أو تمرد، فيرد بابتسامة ساخرة تُعيدها إلى نقطة البداية.

شيئًا فشيئًا.. بدأ العالم حولها يضيق، لم تعد تثق في أحد، ولا حتى في صوتها الداخلي، كانت تشعر كأنها تعيش داخل مرآة مشروخة، كل ما تراه فيها نسخة مشوهة مما كانت عليه.

أصبحت تصدق ما يقوله عنها أكثر مما تصدق ما تعرفه عن نفسها. كل جملة منه كانت تُعيد تشكيل وعيها، تُصنع بها نسخٌ جديدة منها: نسخة أكثر هشاشة، أكثر خضوعًا، وأكثر خوفًا من الفقد.

وكان هو يستمتع بذلك الانكسار الهادئ، كما يستمتع الرسام حين يمحو ملامح لوحته ليعيد رسمها على هواه، في لحظات نادرة من الوعي، كانت تشعر بأن شيئًا ما ليس طبيعيًا، لكن هذا الإحساس كان يُقابل دائمًا بابتسامة وعبارة مألوفة: «أنتِ حساسة أكثر من اللازم».

وهكذا، كانت تُعيد إغلاق الباب على شكوكها، تقنع نفسها أن المشكلة فيها، لا فيه، وتغرق من جديد في دوامةٍ من التبرير والإنكار. وتكتب «دانا مورنينغستار» في كتابها «The Narcissist’s Playbook»: النرجسي لا يبحث عن الحب، بل عن السيطرة المقنّعة بالحب؛ كل كلمة لطيفة منه هي خطوة نحو قيدٍ جديد.

كانت تلك السيطرة ناعمة في البداية، لكنها تحولت مع الوقت إلى شبكة محكمة، كل خيطٍ فيها مصنوع من كلمة، من ابتسامة، من لومٍ خفيف، من شكّ صغير.

ومع كل خيط، كانت تخسر جزءًا من ذاتها، حتى صارت لا تعرف مَن تكون من دونه، رغم أنها لم تعد تعرف مَن هو أصلًا.

أحيانًا كانت تستيقظ في منتصف الليل، تتساءل إن كانت حقًا أصبحت المرأة التي يصفها، أم أن عقلها ما زال يحتفظ ببقاياها القديمة في مكانٍ بعيد، وكانت تمسح دموعها في صمت، تحاول تذكّر آخر مرة ضحكت فيها بصدق، آخر لحظة شعرت فيها بأنها «هي»، لا ما أراد لها أن تكونه.

وفي كل مرة كانت تهمّ بالمغادرة، كانت تعود، لأن الخوف من المجهول بدا أشد قسوة من بقائه.
ذلك الخوف الذي كان هو يزرعه عمدًا، يُربّيه في داخلها حتى يصير كائنًا ضخمًا يحرس أسوار سجنه من الداخل.

تقول «ميلاني تونيا إيفانز» في كتابها «You Can Thrive After Narcissistic Abuse»: النرجسي لا يسيطر عليك بالقوة، بل بخوفك من غيابه.

وهكذا استمرت في الدائرة المغلقة، بين الإنكار والتبرير، بين الغضب والحنين، بين وعود جديدة وكوابيس قديمة، لم تكن تدرك أن اللعبة اقتربت من نهايتها، وأن المرايا المكسورة بدأت تعكس شيئًا آخر غير صورته.

ربما كان ذلك الضوء البعيد الذي يتسلل من الشقوق، يعلن - بصوت خافت- أن الإدراك قادم، وأن العيون ستُفتح أخيرًا على الحقيقة، مهما كانت موجعة، ولم تكن تعلم أن الخطوة التالية لن تكون في اتجاهه، بل بعيدًا عنه، حيث تبدأ رحلة أخرى -مختلفة تمامًا- في مواجهة الذات، لا لإصلاحها، بل لاستعادتها.. يتبع.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق