يعود فيلم «فرانكشتاين» في نسخته الأحدث ليعيد قراءة الأسطورة الكلاسيكية من منظور أكثر إنسانية ووجعًا، يضع العلاقة بين الأب والابن، والعالم ومخلوقه، في مواجهة قاسية مع فكرة الخلق والموت والخلود.
تبدأ الحكاية عام 1818 مع «فيكتور»، الابن الذي نشأ في بيتٍ يفيض بالثراء ويخنقه القسوة. والده، الطبيب الجراح الصارم، يعامله بعنفٍ مبررٍ دائمًا بالرغبة في جعله الأفضل، بينما يغمر شقيقه الأصغر بالحنان، ليكبر فيكتور وهو يحمل في داخله مزيجًا من الغضب والتحدي والبحث عن اعترافٍ مفقود.
يوم وفاة الأم يشهد لحظة الانفجار الأولى، حين يحمّل فيكتور والده مسئولية موتها، مرددًا كلماته الحادة: «أنت فشلت في إنقاذها… لكني سأنتصر على الموت». جملة تُصبح محور حياته كلّها.
بعد وفاة الأب، يتفرق الأخوان ويبدأ فيكتور رحلته مع العلم، رحلة جنونية نحو المستحيل. وبينما يتهمه زملاؤه وتلاميذه بالجنون حين يعلن قدرته على خلق إنسان، يظهر في حياته رجل غامض هو عم «إليزابيث» خطيبة شقيقه الأصغر، الذي يحمل اهتمامًا خاصًا بأبحاثه.
يعرض عليه هذا الرجل صفقة شيطانية: أن يخلق له جسدًا جديدًا يخلّد روحه المريضة قبل أن يفتك بها الموت. لكن فيكتور، رغم أنانيته، يرفض الفكرة. وفي الوقت ذاته، يقع في حب «إليزابيث» نفسها، المرأة التي تنجذب لعقله في البداية قبل أن تكتشف أن عبقريته مجرد غلاف لأنانية قاتلة، وتجد في المخلوق الغريب ما لم تجده في خالقه من مشاعر صافية واحتياج إنساني.
ينجح فيكتور أخيرًا في إحياء مخلوقه من أشلاء قتلى الحروب. كائن ضخم لا يعرف سوى كلمة واحدة: «فيكتور». يحاول العالم الشاب تعليمه وتطويره، لكن حين يفشل في منحه الروح والأحاسيس، يقرر تدمير مختبره وكل ما فيه. إلا أن المخلوق ينجو ويختفي عن الأنظار، ليبدأ رحلته الخاصة في اكتشاف العالم.
تبلغ المأساة ذروتها في ليلة زفاف شقيق فيكتور، حين يعود المخلوق لمواجهة خالقه. يخبره أنه لم يخطئ حين نطق باسمه فقط، بل تعلم كلمة جديدة: «إليزابيث». وعندما تراه إليزابيث وتقترب منه بشفقة، يحاول فيكتور قتله، فتنطلق الرصاصة لتصيبها هي وتسقط بين ذراعي المخلوق، بينما يلقى شقيق فيكتور مصرعه أيضًا.
لحظة انهيارٍ شاملة تُحوّل المخلوق إلى وحشٍ غاضب لا يُقهر، يطارد فيكتور طالبًا منه أن يخلق له أنثى تشاركه وحدته، لكنه يرفض، لتبدأ بينهما حرب لا رابح فيها.
الفلسفة في قلب الحكاية
في عمق الحكاية، يطرح الفيلم أسئلة فلسفية شائكة عن حدود الإنسان أمام الخلق، وعن الخط الرفيع بين العلم والغرور، بين الإرادة الإلهية والإرادة البشرية.
«فرانكشتاين» هنا ليس مجرد عالم طموح، بل رمز للعقل الإنساني حين يتجرّد من البعد الأخلاقي ويظن أن المنطق والمعرفة وحدهما قادران على تفسير الوجود.
المخلوق الذي يصنعه هو تجسيد حي لفكرة "الإنسان بعد سقوط الروح"، كائن يمتلك الجسد والعقل لكن بلا إحساس بالانتماء أو الرحمة، ليصبح مرآة مظلمة لخالقه.
ومن خلال العلاقة بينهما، يعيد الفيلم قراءة أسطورة الخلق الأولى: كيف يمكن للابن أن يتمرّد على أبيه، وللإنسان أن يواجه خالقه، وللعلم أن يصبح سلاحًا ضد صاحبه.
إنه عمل عن الغرور البشري حين يتجاوز حدود الخلق الطبيعي، وعن الثمن الفادح الذي يدفعه الإنسان حين يحاول أن يكون إلهًا.
فريق العمل وأداء الممثلين
الفيلم من إخراج جوناثان كيلنر، الذي قدم رؤية بصرية مدهشة تمزج بين العتمة القوطية والتفاصيل الواقعية الدقيقة لتلك الحقبة. اعتمد أسلوب الإضاءة الباردة والتكوينات المتقابلة في اللقطات ليرسم الصراع بين الحياة والموت، والعلم والعاطفة.
كتب السيناريو إليوت هاورد بتوازن مدهش بين اللغة الشعرية والفكرية، فحوّل الحوار إلى جسر بين الفلسفة والدراما.
جسّد الممثل البريطاني لوك أندروز شخصية فيكتور بعمقٍ داخلي، أظهر التناقض بين عبقريته وضعفه الإنساني، فيما قدّم مايكل روبرتس أداءً استثنائيًا في دور المخلوق، بلغة جسد دقيقة تجمع بين البراءة والوحشية، بين الطفل والآلة.
أما إيما ستونر في دور إليزابيث، فمثلت الجانب الإنساني الحنون وسط عالمٍ بارد، لتصبح ضمير الفيلم وصوته العاطفي الأخير.
في النهاية، «فرانكشتاين» ليس فيلم رعبٍ عن وحشٍ يُخلق من أشلاء الموتى، بل عن إنسانٍ قتل إنسانيته في سبيل انتصاره المؤقت على الموت.
لقد أراد فيكتور أن يصنع الحياة، فصنع المأساة، وكأن الفيلم كله يصرخ في وجه العلم حين ينفصل عن القلب: "حين نحاول أن نصير آلهة، نفقد ما يجعلنا بشرًا".
0 تعليق