على الرغم من الهدوء على صعيد المعارك بعد توقيع اتفاق شرم الشيخ للسلام، إلا أن معركة أخرى ظهرت في الأفق ألا وهي معركة الرفات أو معركة جثامين المحتجزين، والتي أدت لنشوب حرب إعلامية وتصريحات واتهامات متبادلة بين حماس وحكومة الاحتلال، واشتعلت "أزمة الرفات" أو جثامين المحتجزين الإسرائيليين الذين قضوا في قطاع غزة، على مدار الأيام الماضية، على الرغم من دخول اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى عامين من القتال حيز التنفيذ، وتسلّم إسرائيل لعدد من الجثامين، إلا أن تعثّر تسليم جميع الرفات المتبقية يهدد بانهيار تفاهمات هشة بُنيت بوساطة دولية مكثفة.
اتهامات متبادلة بين حماس والاحتلال
وفي ظل التهديدات الإسرائيلية باستئناف الحرب والمساعي الدولية لإنقاذ الموقف، تبدو الأزمة في جوهرها لوجستية-إنسانية، لكن تداعياتها السياسية قادرة على نسف الهدوء الهش، حيث تزايدت الاتهامات المتبادلة بين الطرفين بشكل غير مسبوق، فمن جهة، تتهم إسرائيل حماس بـ"المماطلة" و"انتهاك" الاتفاق، خاصة بعد تداول أنباء عن وجود عدد من الجثامين (يُقدر العدد المتبقي بنحو 19 جثماناً) لم يتم تسليمها بعد. وقد وصل الأمر إلى أن وزير الدفاع يسرائيل كاتس لوّح صراحة بـ"استئناف الحرب" وأمر الجيش بإعداد "خطة لسحق" حماس ما لم تتم استعادة جميع الجثث.
وعلى نفس المنوال، أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن "المعركة لم تنته بعد"، متعهداً بتأمين عودة رفات جميع المحتجزين، ومشدداً على أن إسرائيل تقف في "الخط الأول للمواجهة بين الهمجية والحضارة". ولم يتوقف التصعيد عند حدود التهديد العسكري، بل لجأت إسرائيل إلى التلويح بورقة إغلاق معبر رفح وتقليص المساعدات الإنسانية لغزة، كوسيلة ضغط مباشرة.
في المقابل، أكدت حركة حماس التزامها بالاتفاق، مشيرة إلى أن تأخر إعادة ما تبقى من الجثامين يعود بشكل أساسي إلى "حالة الدمار الهائلة" التي خلفها العدوان الإسرائيلي على القطاع. هذا الدمار يجعل مهمة العثور على الرفات وانتشالها من تحت الأنقاض "تحدياً هائلاً" يتطلب وقتاً وجهداً كبيراً ومعدات ثقيلة غير متوفرة. كما ذهبت حماس إلى اتهام نتنياهو بـ"عرقلة الجهود" والسعي لـ"التذرع" بملف الجثامين لتفادي التزاماته الأخرى بموجب الاتفاق.
حماس تنقب وواشنطن تتفهم الموقف
يؤكد خبراء وعسكريون أن هناك صعوبة العثور باقي الجثث؛ إذ تشير التقديرات إلى أن أجزاء واسعة من القطاع تحولت إلى ركام، وأن البحث تحت هذا الكم الهائل من الأنقاض والذخائر غير المنفجرة هو عملية "تنقيب" معقدة، حيث أفاد مصدر في حركة "حماس" للوسطاء بأن الحركة سلمت كل ما لديها من رفات استطاعت الوصول إليه، وأن البقية تحتاج إلى عملية تنقيب وانتشال معقدة قد لا تتمكن منها المقاومة وحدها.
في ظل هذا المشهد، أظهر المجتمع الدولي، ممثلاً بالولايات المتحدة، تفهماً جزئياً لصعوبة الموقف، فبينما قدم مسؤولون إسرائيليون لواشنطن معلومات تتهم حماس بأنها "تتباطأ عمداً"، قلّل كبار مستشاري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من شأن المخاوف الإسرائيلية. وفي إشارة ذات دلالة، أكد ترامب أن حماس "تنقّب" بالفعل عن الجثث، مشيراً إلى أن العملية مروّعة وتستغرق وقتاً. كما وصف أحد مستشاري البيت الأبيض مستوى الحطام في غزة بأنه "أعلى بكثير" من مستوى مركز التجارة العالمي، مؤكداً أن واشنطن لا ترى أن حماس "تنتهك" الاتفاق، وأن المشكلة تكمن في الحطام والذخائر غير المنفجرة. وبناءً على ذلك، أكد مسؤولون أمريكيون أنهم "لن يسمحوا بانهيار الاتفاق" وأن جهودهم تتركز على توفير المساعدات اللوجستية والاستخباراتية لحل الأزمة.
للوقوف في وجه هذه التهديدات وتجاوز العوائق اللوجستية، وافقت إسرائيل على إدخال فرق دولية متخصصة للمساعدة في جهود البحث. وفي هذا الإطار، وافقت تل أبيب على إرسال تركيا عناصر إنقاذ إلى غزة، لتكون جزءاً من قوة عمل متعددة الجنسيات تضم أيضاً الولايات المتحدة ومصر وقطر واللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وفي تفاصيل هذه الجهود، صرح مسؤول تركي بأن هيئة إدارة الكوارث والطوارئ التركية سترسل أكثر من 80 متخصصاً من ذوي الخبرة في الاستجابة للزلازل للمساعدة في انتشال الجثامين. وبالتوازي، كشفت مصادر في حماس أنه تم الاتفاق على أن تبدأ فرق فنية مصرية وتركية المساعدة في عمليات انتشال الجثامين المتبقية "الأسبوع المقبل"، بتنسيق مباشر مع الجانب الإسرائيلي لتسهيل دخول الخبراء و"المعدات الثقيلة المتخصصة" إذا لزم الأمر.
"آثار تعذيب وحروق" تغطي جثامين الفلسطينيين
في سياق متصل، كشفت الأزمة عن وجه آخر للمعاناة الإنسانية؛ إذ قامت إسرائيل بالإفراج عن دفعات من جثامين الأسرى والشهداء الفلسطينيين الذين كانوا محتجزين لديها، وقد أفادت السلطات الصحية في غزة بأن بعض هذه الجثامين تحمل "آثار تعذيب وحروق"، مما يثير اتهامات للاحتلال الإسرائيلي بارتكاب انتهاكات جسيمة وجرائم حرب بحق الأسرى الفلسطينيين قبل إعادتهم، ليُضاف ملف هذه الجثامين إلى تعقيدات المشهد الإنساني.
هل تنجح الدبلوماسية في نزع فتيل الأزمة؟
تستمر جهود الوساطة المصرية والقطرية لـ"تذليل العقبات"، في محاولة لمنع انهيار اتفاق وقف إطلاق النار الذي أدى إلى هدوء نسبي وإدخال شريان حياة من المساعدات. ويرى المراقبون أن ملف الجثامين يمثل نقطة ضغط حساسة، لكنها ليست بالضرورة نقطة النهاية.
التحليل السائد يرجح أن تنجح الدبلوماسية في تجاوز "أزمة الرفات"، عبر تحويلها من خلاف سياسي إلى مهمة لوجستية. فبدلاً من التركيز على اتهام حماس بـ"الانتهاك"، يركز الوسطاء الآن على تمديد غير معلن للعملية، وتوفير الدعم الفني اللازم. وفي نهاية المطاف، فإن إدخال الخبراء والمعدات هو الضمانة الدبلوماسية الوحيدة لدفن الرفات في إسرائيل، ودفن أزمة الانهيار في غزة، حيث أن وقف إطلاق النار الهش سيبقى صامداً بصعوبة، مع بقاء الدمار ومخاطر الذخائر غير المنفجرة التحدي الأكبر أمام مهمة البحث الإنسانية واللوجستية بالغة الصعوبة.











0 تعليق