حين تتشابك السياسة بالرياضة، تتحول كرة القدم من مجرد لعبة إلى أداة ضغط وساحة صراع، ظهرت هذه الحقيقة جليًا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
في الرابع والعشرين من فبراير 2022، وحين كان صدى الحرب يطرق مسامع العالم، ارتفعت أصوات اتحادات كرة القدم في التشيك والسويد وبولندا ببيان مشترك، تهيب فيه بالاتحاد الدولي «فيفا» ألّا تُمنح روسيا فرصة اللعب على المستطيل الأخضر، بعدما اختارت خوض معركة الدم والسلاح على الأراضي الأوكرانية، وهي التي كانت تستعد لطرق أبواب مونديال قطر في آخر العام.
السؤال هنا هل تتحول كرة القدم والقوة الناعمة لأداة للضغط وتحويل دفة الحرب من ساحات المعارك إلى ملاعب كرة القدم؟
في صباح الخميس الـ24 من فبراير استيقظ العالم على إعطاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بكل صلف، إشارة لبدء أولى العمليات العسكرية في أوكرانيا وإعلان الحرب رسميًا في كييف، مما أثار حالة من السخط وغضب الرأي العام العالمي ضد الكرملين، فكيف كان رد فعل كرة القدم لتقويض هذه الحرب التي نشبت بين موسكو وكييف؟
الاتحاد الأوروبي وعقوبات متتالية
أتى رد الاتحاد الأوروبي لكرة القدم سريعًا، عندما أصدر بيانًا يوم الجمعة الـ 25 من فبراير، اليوم التالي لإعلان بوتين الحرب على أوكرانيا، بنقل إقامة نهائي دوري أبطال أوروبا إلى العاصمة الفرنسية «باريس» والذي كان من المقرر إقامته في مدينة سانت بطرسبرج الروسية.
ولم يكتفِ الاتحاد الأوروبي بهذا فقط، بل ظل مستمرًا في فرض العقوبات، على كل ما هو روسي، في إشارة صارخة منه على أن ما حدث من قبل الرئيس الروسي لن يحمد عقابه، ففي يوم الـ28 من الشهر نفسه وبعد نقله إلى نهائي دوري أبطال أوروبا عام 2022، أنهى «يويفا» شراكة الراعي الأكبر له «جاز بروم» الروسي، وفي اليوم نفسه أعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم إيقاف الأندية والمنتخبات الوطنية الروسية عن المشاركة في جميع المسابقات، فظلت العقوبات تتلاطم أمواجها على الشواطئ الروسية، ولا تزال حتى الوقت الراهن قضية مشاركة الأندية الروسية معلقة من المشاركة في مسابقات الأندية.

العقوبات تنال من المستثمرين الروس
ولم تتوقف سياسة النبذ على الأندية والمنتخبات الروسية فقط، فنالت العقوبات المستثمرين الكرملين، ولعل أبرز من تعرض لها رجل الأعمال الروسي رومان أبراموفيتش مالك نادي تشيلسي الإنجليزي السابق، فبعد إجباره على بيع نادي تشيلسي وتوجيه الدفة نحو الأمريكي تود بويلي، تم تجميد أموال البيع والتي قدرت بـ2.5 مليار جنيه إسترليني.
فرضت الحكومة البريطانية عقوبات على أبراموفيتش في حملة على رجال الأعمال الروسي في أعقاب الغزو الكامل لموسكو لأوكرانيا، مما أدى إلى بيع متسرع للنادي اللندني في عام 2022 وتجميد العائدات بموجب شروط غامضة.
فبعد ثلاث سنوات، لم تُصرف الأموال بعدُ بسبب خلاف حول توزيعها، تُريد بريطانيا إنفاق الأموال في أوكرانيا فقط، تماشيًا مع المسعى الأوروبي الذي يريد دفع موسكو لتحمل تكاليف الدمار الهائل والوفيات الناجمة عن غزوها، بينما يُريد أبراموفيتش مزيدًا من المرونة، وأن تُصرف الأموال لجميع الضحايا، وليس هذا المشهد بجديد على الرياضة، فقد شهد القرن العشرون وقائع مشابهة.

الحرب الباردة
فلم تكن الحرب بين موسكو وكييف هي الأولى من نوعها لإقحام القوى الناعمة والرياضة إلى ساحات المعارك، بل كانت استمرارًا لتاريخ طويل متسلسل منذ القرن الماضي، فمع إعلان مبدأ ترومان وسياسة الاحتواء الأمريكية ضد التوسع السوفيتي وقد أُشعل فتيل التدخل الكروي مع السياسة.
ولعل أبرز ما يعبر عن تداخل السياسة مع الكرة في تلك الفترة، هو مقاطعة أولمبياد موسكو 1980 احتجاجًا على غزو أفغانستان، من قبل أمريكا+ 60 دولة أخرى.

وبعدها بأربع سنوات كان من المقرر أن تقام الأولمبياد في مقاطعة لوس أنجلوس أكبر مدن ولاية كاليفورنيا الأمريكية، فلم يتوانى الاتحاد السوفيتي في استغلال فرصة الرد على ما حدث بالأولمبياد السابقة فقاطع السوفييت البطولة ومعهم 14 دولة.

جنوب إفريقيا والفصل العنصري
في عام 1961، تم تعليق عضوية اتحاد جنوب أفريقيا لكرة القدم، بسبب نظام الفصل العنصري، نتيجة لضغط من الدول الأفريقية والآسيوية، وعلى الرغم من أن الفيفا أعادت الحظر بعد فترة قصيرة في عام 1963، لكنه تم طرد جنوب أفريقيا نهائيًا في عام 1976.
ومع سقوط نظام الفصل العنصري عام 1992، تم إعادة عضوية اتحاد جنوب أفريقيا لكرة القدم.
الحروب تغير مصير بطولة أمم أوروبا «يورو» 1992
تأهل منتخب يوغوسلافيا لنهائيات كأس الأمم الأوروبية 1992، وتصدر مجموعته في التصفيات، ولكن لأن السياسة يجب أن تقحم في الرياضة، أستبعد الأخير من بطولة «يورو» 1992، على خلفية حروب البلقان التي تميزت بالصراعات العرقية والدينية بين مجموعات مثل الصرب، والكروات، والبوشناق، ليشارك منتخب الدنمارك الذي لم ينجح في التأهل إلى نهائيات البطولة، ويحقق المفاجأة الكبرى ويتوج بالبطولة ويعانق الذهب، بسبب الخلافات السياسية والحروب.
عندما أشعلت كرة القدم أمريكا الوسطى.. في حرب الـ100 ساعة
الشرارة لم تكن في قاعة برلمان أو على طاولة مفاوضات بل في ملعب كرة قدم.
في جميع النماذج الماضية كانت هناك حروب وتتحول الحرب من ساحات المعارك إلى ملاعب كرة لقدم، ولكن الأمر في حرب السلفادور والهندوراس، مغاير تمامًا، فالشرارة التي أشعلت نيران الحرب بين الأخيرين كانت من ملعب كرة قدم.
في صيف 1969، كانت أمريكا الوسطى تغلي على صفيح ساخن، ففي شهر يونيو من العام نفسه كان هناك مباراتان تجمع بين السلفادور والهندوراس، ضمن المنافسات المؤهلة لكأس العالم 1970، أُقيمت مباراة الذهاب في تيجوسيجالبا عاصمة هندوراس، فاز المنتخب المضيف 1–0، وبعد المباراة اندلعت أحداث عنف ضد السلفادوريين المقيمين هناك.
ولعبت مباراة العودة في سان سلفادور بعد المباراة الأولى بأسبوع واحد فاز السلفادور 3-0، الهزيمة فجّرت غضب الجماهير، واعتداءات طالت المهاجرين من الجانبين.
فبحسب القواعد والنظام وقتها، فإن النتيجة بين المنتخبين هي التعادل، كل منهم فاز بمباراة بغض النظر عن النتائج والتفاصيل الداخلية عكس الآن، فكان يجب أن تقام مباراة فيصلية، لتحديد المتأهل لنهائيات كأس العالم 1970.
الأجواء ملتهبة والضباب يعزو المشهد والغضب مسيطر على الجماهير، فلذلك أقيمت المباراة الفيصلية في المكسيك تحت رقابة مشددة، فاز السلفادور 3-2 وتأهل للمرحلة النهائية من تصفيات كأس العالم 1970.
من الملعب إلى ساحة الحرب.. و6 ألاف قتيلًا
بعد ساعات من المباراة الفاصلة، السلفادور أعلنت قطع علاقاتها الدبلوماسية مع هندوراس متهمة إياها باضطهاد مواطنيها.
وفي 14 يوليو 1969، اندلع القتال فعليًا بين جيشي البلدين،حرب قصيرة لكنها دموية، استمرت 100 ساعة فقط وقع على إثرها 6000 قتيلًا، قبل أن يتدخل منظمة الدول الأمريكية لإقرار وقف إطلاق النار.
وهكذا، لم تعد كرة القدم مجرد لعبة، بل تحولت عبر التاريخ إلى مرآة للصراعات، وأداة ضغط سياسي قد تشعل حربًا أو توقف أخرى.

0 تعليق