الأغنية الرسمية لتعميم النظم الإلكترونية والسائدة في أغلب الأحيان هي اغنية لا يطلبها المستفيدين "السيستم واقع". هذا الأمر يقتل باستمرار فرحتنا بإدخال النظم الإلكترونية في المصالح الحكومية.
لكن الأقوى من كل نظام إلكتروني هو الروتين الحيّ المتغلغل في جينات المصالح والأجهزة والمؤسسات الحكومية، فهو أقوى من أي تحديث، ومن أي كمبيوترات، ومن أي أنظمة إلكترونية أو ذكاء طبيعي أو اصطناعي أو حتى سماوي.
فلا مهرب من التوقيعات والأختام وقتل العمر — الذي هو وقت الإنسان — بلا رحمة أو شفقة أو تراجع.
وعن تجربة ذاتية، أروي لكم هذه الوقائع التي تؤكد أن الروتين قوي وباقٍ، ولا يقدر أي زر، مهما كان، أن يزحزح مكانته قيد أنملة. فهو الحقيقة الأكيدة في حياتنا، والتي تسبق حتى حقيقة الموت.
الأسبوع الماضي أجرت زوجتي الغالية عملية في أحد المستشفيات الحكومية الكبرى، ولا ينكر المرء أبدًا أن بهذه المستشفيات إمكانيات طبية هائلة وأجهزة حديثة وأطباء أكفاء عظماء يستحقون الشكر والتقدير بحق.
لكن التعامل بالأوراق والروتين يضيع كل هذه الإيجابيات الممتازة.
فلكي تحصل على تقرير طبي بالحالة والتشخيص ونوع العملية، تحتاج إلى ساعات مضنية من الجري وراء التوقيعات والأختام، في رحلة صعود وهبوط سلالم تقطع الأنفاس، ولهاث وراء موظفين مختلفين منتشرين في هذا الصرح الضخم بكل دهاليزه.
البداية تكون بالحصول على تقرير مكتوب بخط الطبيب الذي أجرى العملية أو أحد نوابه، ممهور بتوقيعه وختمه.
ثم تبدأ رحلة البحث عن هذا الطبيب الغارق بين مرضاه وعملياته ليكتب التقرير.
بعدها تذهب إلى جهة تُسمّى "مركز الإحصاء" للتوقيع والختم، ثم إلى إدارة القسم ومديرته لتوقيعهما وختمهما، ثم إلى شؤون المرضى، ومنها إلى الخزينة لدفع إيصال بقيمة عشرة جنيهات، ثم العودة لتوقيع نائب مدير القسم وختمه.
وأخيرًا، إلى ختم النسر — الختم الأعظم — لتكتمل المجموعة المقدسة من التوقيعات والأختام، التي تشهد رسميًا بأن زوجتك أجرت عملية جراحية!
تخرج بعد هذا الجهد المضني عرقانًا مهدود البدن، لتتوجه إلى لجنة التأمين الصحي التي يجب أن تحدد مدة الإجازة المستحقة، بعد أن تكون قد حصلت على خطاب من جهة العمل للتأمين.
لكن في لجنة التأمين الصحي يطلبون حضور الحالة نفسها — أي المريضة — للكشف عليها عيانًا للتأكد من أنها أجرت فعلًا العملية.
تصرخ وتشرح أن المريضة ما زالت متعبة وحركتها صعبة، فلا حياة لمن تنادي، إذ لا بد من حضورها شخصيًا.
تتحمل المريضة المشقة والعناء وتذهب للجنة، وهناك يكشف الطبيب ويتأكد من أثر العملية، ثم ينظر في التقرير ويكتشف — بفرح غريب — أن الطبيب الذي كتب التقرير نسي أن يذكر أن العملية أُجريت بالمنظار الجراحي.
ويقرر أنه لا بد من تقرير جديد!
"يا نهار أسود يا دكتور!
لقد عاينت الحالة بنفسك ورأيت أثر المنظار، ومع ذلك تصر على تقرير جديد!
فتعود إلى المستشفى وتبدأ مجددًا رحلة البحث عن الطبيب، وتستغرق يومًا كاملًا آخر في جمع التوقيعات والأختام، ثم تعود للجنة التأمين.
بالله عليكم، ما هذا؟ ونحن نتباهى بدخول عصر الحكومة الإلكترونية!
لماذا لا نُبسط الحياة حتى على المرضى؟
لماذا لا يُكتب تقرير شامل للمريض فور انتهاء العملية على الكمبيوتر، ويتم تمريره عبر النظام الإلكتروني، ويستلمه المريض أو قريبه من شباك واحد، مختومًا بختم النسر؟
حتى لو كان المقابل المادي أعلى قليلًا، فذلك حرص على الوقت وراحة للمريض والطبيب، وتوفير لهذا الجهد المضني والمهدر.
وإذا كانت لجنة التأمين الصحي — التي تحتاج فعلًا إلى تجديد شامل لتخفيف حدة روتين لا يراعي المرضي — لا تقتنع بالتقرير المختوم بختم النسر وتطلب المريض المجروح ذاته، فما فائدة هذا التقرير بكل توقيعاته وأختامه؟
تباهينا بالنظم الإلكترونية وسط هذا الهمّ الروتيني الجاثم على صدورنا ذكّرني بمشهد "الشنكل" في فيلم أرض النفاق، ذلك المشهد الذي يلخص عبء الروتين على حياتنا في سخرية مريرة قدّمها باقتدار الأستاذ فؤاد المهندس والفنان حسن مصطفى.
كان محوره "أموال كانت هتضيع على الشركة وصُرفت بدون وجه حق"، وهي عبارة عن 44 مليمًا ثمن شنكل لم يُركب منذ 18 سنة في الشركة.
وبعبقرية حسن مصطفى وإجادته لشخصية الموظف الروتيني "الحدق"، بدأ رحلة البحث عن ثمن الشنكل: يرسل خطابات مسجلة مستعجلة بعلم الوصول، ثم يشكل لجنة، واللجنة تشكل لجنة فرعية، وهذه بدورها تشكل لجنة داخلية ثالثة، حتى يتبينوا إن كانت "الخروم" الموجودة في الحائط نتيجة "الشنكل" أم بسبب "حرامي الحلة" أو "خربشة القطة"!
وبعد دخول النظم الإلكترونية، أصبح الشنكل إلكترونيًا! يا للتقدم!
إفيه قبل الوداع:
* عويجة أفندي (حسن مصطفى) صرف في فيلم أرض النفاق 400 جنيه من أموال الشركة عشان يجيب شنكل بـ44 مليم.
* وأنت في 2025 تدفع عشرة جنيهات وتبذل مجهودًا خارقًا لتحصل على تقرير بالأختام والتوقيعات مقابل يوم إجازة من عملك وهدر عمرك!
إنها أرض النفاق بالفعل لا الفيلم
0 تعليق