شهدت مصر في النصف الأول من أكتوبر الجاري سلسلة من الأحداث البارزة التي أكدت مكانتها كقوة إقليمية فاعلة. فقد نجحت في التوصل إلى اتفاق شرم الشيخ لوقف إطلاق النار في غزة، وأعلنت عن استضافة قمة دولية للسلام بمشاركة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقادة المنطقة، كما تم انتخاب الدكتور خالد العناني مديراً عاماً لليونسكو في إنجاز حضاري يعزز قوتها الناعمة. وتوّجت النجاحات بتأهل المنتخب المصري إلى كأس العالم للمرة الرابعة. وهكذا، يبرز مجدداً شهر أكتوبر بوصفه شهر الانتصارات في الذاكرة الوطنية المصرية منذ حرب العبور عام 1973 وحتى المنجزات السياسية والدبلوماسية والثقافية والرياضية، ويعيد تأكيد قدرة الدولة المصرية على تحويل كل لحظة اختبار إلى لحظة انتصار.
الدور المصري في اتفاق غزة
مثّل التوصل إلى «اتفاق شرم الشيخ» لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس تتويجاً لدور مصري محوري في إدارة الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. ومن منظور المدرسة الواقعية في العلوم السياسية، تعبر تحركات القاهرة عن منطق "الدولة المحورية" التي تسعى إلى حماية مصالحها القومية عبر ضبط التوازنات الإقليمية. وقد وفرت القاهرة بنية تفاوضية متعددة المستويات جمعت بين الجوانب الإنسانية والأمنية والسياسية، في إطار اتفاق مرحلي يشمل تبادل الأسرى وضمانات دولية لتنفيذ الالتزامات.
ويكشف هذا الأداء الدبلوماسي عن تجسيد عملي للواقعية الدفاعية التي تميل إلى إدارة الأزمات لا تأجيجها، وتوظيف النفوذ الجغرافي والاتصالي لمصر مع مختلف الأطراف. كما عكس الموقف المصري في رفض عمليات التهجير أو إعادة التوطين للفلسطينيين في سيناء إدراكاً استراتيجياً لأهمية صون السيادة الوطنية وعدم الزج بمصر في معادلات تهدد أمنها الديموغرافي أو الاجتماعي. كما تمسكت القاهرة بمبدأ ثابت يؤكد الحقوق الفلسطينية المشروعة ورفض أي حلول تتجاوز الشرعية الدولية، حيث شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي على أن "مصر لن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية، والحل العادل هو إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية".
قمة دولية باستضافة مصرية
استضافة مصر للقمة الدولية في شرم الشيخ بحضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعدد من القادة الإقليميين والدوليين شكلت تحولاً في إدارة القاهرة للعلاقات متعددة الأطراف. ووفق مقاربات المدرسة المؤسسية–البنائية، عملت مصر على إعادة صياغة بنية التفاعل الإقليمي عبر تحويل المفاوضات من نطاق ثنائي إلى منظومة جماعية دولية تستند إلى قرارات أممية وآليات متابعة تنفيذية. هذا الفعل المؤسسي أكد على «شرعية الدور المصري» بوصفه ضامناً للاستقرار، كما عكست القمة ما يمكن تسميته بـالتحول من دبلوماسية الأزمة إلى دبلوماسية النظام، أي من إدارة اللحظة إلى بناء الإطار الدائم، وهي سمة تتطابق مع فلسفة الدولة المصرية في إدارة الملفات الإقليمية منذ مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ضمانات الأمان المصرية
أظهرت التطورات اللاحقة للاتفاق، بما في ذلك ظهور القيادي في حركة حماس خليل الحية في مؤتمر صحفي بالخارج، مقابل تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي حول استهداف قيادات الحركة، تأكيداً على فلسفة الأمن الإقليمي من وجهة النظر المصرية.
فبينما اعتمدت إسرائيل خطاب الردع العابر للحدود، اعتمدت القاهرة منطق الأمن المنضبط بسيادة الدولة، إذ وفرت بيئة تفاوضية آمنة للأطراف المختلفة، وأكدت أن الضمانات الأمنية يمكن أن تنبع من سيطرة الدولة لا من تجاوزها.
وتعكس هذه المعادلة رؤية مصرية متماسكة تؤمن بأن الأمن الإقليمي لا يمكن تحقيقه إلا عبر مؤسسات الدولة الشرعية، لا من خلال تحالفات ظرفية أو انتهاكات سيادية.
القوة الناعمة في خدمة النفوذ المصري
إن انتخاب الدكتور خالد العناني مديراً عاماً لليونسكو بأغلبيةٍ شبه مطلقة يعد مكسباً ثقافياً يعزز من أدوات القوة الناعمة المصرية، ووفقاً لنظرية جوزيف ناي، تمثل القوة الناعمة قدرة الدولة على تحقيق أهدافها من خلال الجذب والإقناع اللذان لهما نفوذ وقدرة تفوق القوة الصلبة. هذا الإطار، استطاعت القاهرة أن توظف إرثها الحضاري والثقافي وتاريخها المؤسسي في الفوز بهذا المنصب الدولي. حيث لا ينفصل هذا الانتصار عن المشهد الدبلوماسي العام، إذ يمنح مصر قناة تأثير في الفضاء الثقافي والمعرفي العالمي، ويوسع من دائرة شرعيتها كدولةٍ تجمع بين العمق الحضاري والفاعلية السياسية.
الرياضة والهوية الوطنية
تمتد النجاحات المصرية عبر مجالات متعددة، تعكس شمولية الحضور المصري وقدرته على تحقيق التوازن بين القوة الصلبة والناعمة. فإلى جانب الإنجازات الدبلوماسية والسياسية والثقافية التي رسخت مكانة مصر كقوة إقليمية عاقلة، برز البعد الرياضي كامتداد طبيعي لهذا التفوق الوطني. ففي علم الاجتماع السياسي، تمثل الرياضة أداة فاعلة لبناء التماسك الاجتماعي وتعزيز الهوية الوطنية، وقد جاء تأهل المنتخب المصري إلى كأس العالم للمرة الرابعة في لحظة إقليمية مضطربة ليرسخ تفوق القدرات المصرية في كافة السياقات والمجالات. إن هذا الإنجاز، وإن بدا في ظاهره رياضياً، فإنه يجسد “الدبلوماسية الشعبية” في أبهى صورها، ويتحول الفخر الوطني إلى قوة دعم لسياسات الدولة الإقليمية والدولية، مؤكداً أن انتصارات القاهرة الظافرة تمتد لتشمل السياسة والثقافة والرياضة في آنٍ واحد.
من نصر العبور إلى نصر الدبلوماسية
من أكتوبر 1973 وأكتوبر 2025 تطور أدوات القوة المصرية من الصلبة إلى المركبة. ففي 1973 استخدمت الدولة القوة العسكرية لاستعادة الأرض وتثبيت الردع، بينما في 2025 تستخدم مزيجاً من الأدوات السياسية والاقتصادية والثقافية لبناء الاستقرار الإقليمي. إنها استمرارية تاريخية تعكس قدرة الدولة على تجديد مفهوم النصر ليتلاءم مع تحولات البيئة الدولية. فالنصر لم يعد فقط عبور القناة، بل عبور التحديات الدولية بحكمة واقعية، وتثبيت مصر في قلب النظام الإقليمي الجديد.
ختاماً، تؤكد جملة الأحداث الإقليمية والدولية أن مصر ما زالت قادرة على تحويل التحديات إلى إنجازات، وعلى استثمار تاريخها في صياغة مستقبلها. لقد أعادت الدولة المصرية تعريف مفهوم النصر ليصبح شاملًا: نصر في الدبلوماسية كما في الميدان، وفي الثقافة كما في الأمن، وفي الوجدان الشعبي كما في المؤسسات الدولية.
هكذا يتجدّد قانون أكتوبر الأبدي: أن مصر، حين تُختبر، تنتصر. وأنها، مهما تغير الزمان، تظل الرقم الصعب في معادلة الاستقرار الإقليمي والعالمي.
0 تعليق