يقف السلام اليوم عند مفترق طرق بين التفاؤل والحذر، ذلك أن قمة شرم الشيخ تمثل لحظة فارقة في مسار الجهود الإقليمية لإنهاء الحرب وإعادة تثبيت الاستقرار، إذ جاءت محملة بقدر كبير من الآمال، لكن أيضا بالوعي الكامل بتعقيدات الواقع وسلوك الأطراف الفاعلة فيه، فبرغم أن القمة تعد في جوهرها نجاحًا مؤكدًا للدولة المصرية واختراقًا حقيقيًا للدبلوماسية الرئاسية المصرية التي استطاعت أن تفرض حضورها وتعيد ضبط ميزان المنطقة، فإنها أيضا ثمرة لتكامل الجهد العربي المشترك، خاصةً في ما يتعلق بمنع مخطط التهجير والحفاظ على وحدة الأرض الفلسطينية.
سلوك متكرر لإسرائيل
ومع ذلك، فإن هذه الكلمات ليست دعوة للتشاؤم بقدر ما هي تذكير ضروري بسلوك متكرر لإسرائيل في خرق الاتفاقات، وهو سلوك لا يجوز التغافل عنه أو التسامح معه، لأن الحفاظ على السلام يتطلب وعيًا يقظًا لا يقل أهمية عن الجهد الدبلوماسي ذاته.
منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، ارتبط سلوكها السياسي والعسكري بسلسلة من الانتهاكات المتكررة للاتفاقيات الدولية، حتى أصبحت فكرة خرق التعهدات جزءًا من أدوات إدارتها للصراع وليست مجرد استثناءات في مسارها الدبلوماسي، فكلما اقتربت المنطقة من السلام، كانت إسرائيل تبتعد خطوة، إما بتغيير الوقائع على الأرض أو بإعادة تفسير نصوص الاتفاقيات بما يخدم مصالحها الأمنية والسياسية.. هذا النهج المتكرر جعل من مسألة الثقة في النوايا الإسرائيلية قضية محل شك دائم في كل عملية تفاوضية أو تسوية محتملة.
منذ اتفاقيات الهدنة عام 1949، أظهرت إسرائيل ميلًا واضحًا لتجاوز الالتزامات الدولية، فبينما كانت تلك الاتفاقيات تهدف إلى تثبيت وقف إطلاق النار بعد حرب 1948، شنت إسرائيل عشرات الغارات على القرى الفلسطينية والمواقع الحدودية المصرية والأردنية والسورية، تحت مبررات "الدفاع عن النفس"، ثم جاء العدوان الثلاثي عام 1956 ليؤكد أن إسرائيل كانت تتعامل مع الهدنة كفرصة لإعادة التموضع العسكري والسياسي، لا كالتزام نحو سلام دائم.
فرض سياسة الأمر الواقع
وفي عام 1967، أقدمت إسرائيل على شن عدوان شامل أسفر عن احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة وسيناء والجولان السوري، ورغم صدور قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي دعا إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة، فإن إسرائيل ماطلت في تنفيذه لعقود، وبدلاً من الانسحاب بدأت في فرض سياسة الأمر الواقع من خلال الاستيطان والضم التدريجي والتهويد الممنهج للقدس، وهو ما شكل أول اختبار حقيقي لعلاقتها بالقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
ومع توقيع اتفاق كامب ديفيد عام 1978 مع مصر، بدا أن إسرائيل تتجه نحو التزام حقيقي بالسلام، لكنها تعاملت مع الاتفاق ببراجماتية مفرطة، فقد نفذت الانسحاب من سيناء تدريجيًا مع فرض قيود أمنية كانت صارمة على الانتشار المصري في مناطق معينة، في حين تجاهلت البند الخاص بالقضية الفلسطينية الذي نص على حكم ذاتي مؤقت يؤدي إلى دولة، وهكذا تحولت بنود الاتفاق إلى صيغة تخدم الترتيبات الأمنية الإسرائيلية أكثر مما تخدم مبدأ السلام الشامل.
وجاء اتفاق أوسلو عام 1993 ليعيد إنتاج النمط ذاته، إذ قدم للعالم صورة زائفة عن التزام إسرائيل بالسلام، بينما كانت على الأرض توسّع الاستيطان وتعمّق الاحتلال، فبدلًا من أن يكون الاتفاق خطوة نحو إنهاء الصراع، أصبح إطارًا لإدارة الاحتلال تحت غطاء دولي، ووسيلة لإبقاء الفلسطينيين في دائرة المفاوضات المفتوحة بلا نهاية، لم تلتزم إسرائيل بجدول الانسحابات المرحلية، وفرضت شروطًا اقتصادية وأمنية أضعفت السلطة الفلسطينية وحوّلتها إلى كيان محدود السيادة محاصر الإرادة.
خرق الاتفاقيات واقتحامات للأقصى
وفي قطاع غزة، تكرر المشهد ذاته مع كل اتفاق تهدئة، فبعد كل جولة تصعيد، كانت إسرائيل توقع على وقف لإطلاق النار ثم تخرقه خلال أسابيع قليلة، عبر اغتيالات أو قصف أو اقتحامات للأقصى، ومع كل هدنة جديدة كانت تُبقي القطاع في حالة "هدوء هش" تتحكم فيه بالكامل، مستفيدة من صمت المجتمع الدولي وتذرعها الدائم بحق الدفاع عن النفس، هذا النمط جعل التهدئة بالنسبة لتل أبيب مجرد أداة لإعادة التموضع الميداني لا أكثر.
واليوم، مع اتفاق شرم الشيخ للسلام لوقف الحرب في غزة، يعود السؤال القديم مجددًا: هل يمكن الوثوق في التزام إسرائيل بالسلام؟.. التاريخ القريب والبعيد يجيب بوضوح أن إسرائيل تلتزم حين تُجبَر، وتخرق حين تستعيد ميزان القوة، لذلك ترى القاهرة أن الضمانة الحقيقية لأي اتفاق ليست في التعهدات الأمريكية أو الوعود الإسرائيلية، بل في وجود رقابة دولية صارمة وقوات حفظ سلام وشرعية أممية عبر مجلس الأمن تضمن التنفيذ الفعلي للبنود.
إن جوهر الأزمة لا يكمن في النصوص، بل في النوايا، فإسرائيل تتعامل مع الاتفاقيات كأوراق تفاوضية مؤقتة، لا كعهود سياسية وأخلاقية ملزمة، فهي تعلن التزامها أمام الكاميرات لتكسب الوقت أو لتخفيف الضغط الدولي، ثم تفرغ البنود من مضمونها عمليًا على الأرض، وبهذا السلوك فقدت تدريجيًا رصيدها من الثقة الدولية، وأعادت المنطقة إلى دائرة متجددة من العنف وردود الفعل.
القاهرة تعيد صياغة المعادلة
بالتأكد أن مصر نجحت في تحقيق إنجاز استثنائي عبر اتفاق شرم الشيخ، لم تتمكن أي دولة في المنطقة من تحقيقه منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، فقد استطاعت القاهرة أن تعيد صياغة معادلة التفاوض الإقليمي من جديد، وأن تثبت أن الوساطة المصرية ما زالت وحدها قادرة على جمع الأطراف المتنازعة حول طاولة واحدة بعد عقود من الانسداد السياسي. هذا الاتفاق لم يكن مجرد ترتيبات لوقف إطلاق النار، بل مثل تحولًا دبلوماسيًا عميقًا أعاد للمنطقة روح مدريد ولكن بواقعية جديدة تراعي المتغيرات الراهنة.
لذلك فإن السلام الحقيقي لا يقاس بعدد الاتفاقيات الموقعة، بل بمدى احترامها وتنفيذها، وما لم تتغير العقيدة السياسية والأمنية التي ترى في القوة بديلاً عن الالتزام، فإن أي اتفاق جديد سيظل معرضا للانهيار في أول اختبار جدي، فحين تصبح الاتفاقيات مجرد هدنة مؤقتة، يتحول السلام إلى شعار بلا مضمون، ويبقى الشرق الأوسط عالقًا في معادلة هشة بين حرب لم تنتهِ وسلام لم يبدأ بعد.
0 تعليق