الحب.. فخّ لا يُفلت منه!

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في رواية «ميثاق النساء» لحنين الصايغ، تقف البطلة "أمل" على الحدّ الفاصل بين الحياة والموت، بين أن تكون أمًّا لابنتها رحمة، وبين أن تكون إنسانةً تبحث عن رحمةٍ لنفسها.

سنواتٌ طويلة قضتها إلى جوار سالم، الرجل الذي أحبّها بجنون، وتزوّجها وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وهي لا تبادله حبًّا، ثم أصبح بعد سنواتٍ من زواجهما لا يشبهها، ولا تشبهه..كان الزواج بيتًا بلا روح، سقفًا يحمي الجسد ويخنق القلب.

ومع كلّ يومٍ جديد، كانت تشيخ في صمتٍ، لا بفعل الزمن، بل بفعل التنازلات التي تقدّمها لزوجها، بينما تحاول استكمال تعليمها في الجامعة الأمريكية.. وحين أطلّ العشيق الدكتور "حامد عبد السلام" في حياتها، لم يأتِ كغريبٍ يريدها، بل كمرآةٍ تعكس ملامحها المنسيّة..لم تكن تبحث عن حبٍّ بقدر ما كانت تبحث عن إثبات وجودها؛ أن هناك من يراها، من يسمع أنينها الداخليّ الذي لم يسمعه أحد.

لكنّ هذا الوميض العابر لا يُنقذها، بل يكشف جرحها الأعمق، ويصرخ فيها أن الحرية، حين تأتي بعد الخواء، قد تُدمّر أكثر ممّا تُحرّر..وفي لحظة قرار الطلاق، التي اتخذتها وكأنها تسبح ضدّ تيار حياتها وحياة أسرتها، لم يكن الطلاق لحظة خلاص، بل كمن يخلع جلده..تقول أمل لأبيها بمرارةٍ هادئة بعد الطلاق:

 «أنا حريصةٌ على سمعتك أمام المشايخ... سأقول للجميع إنَّني أعيش مع شقيقتي في عرمون، لأنها قريبة من عملي في بيروت، ولكنَّني في الحقيقة استأجرت غرفةً في مباني السكن الجامعيّ حيث أعمل».

تبدو الجملة بسيطة، لكنها تحمل آلام العالم كلّه: امرأة تكذب لتمنح الآخرين راحة ضمير، وتواجه نفسها بحقيقتها المؤلمة في عزلةٍ خانقة..ثم يأتيها صوت والد زوجها سالم بعد الطلاق، في وداعةٍ وهدوء:

«أنتِ ورحمة كنتما كلَّ شيءٍ بالنسبة لسالم… لا تأخذي رحمة أيضًا».. 

كلماتٌ قليلة تُلخّص عبئًا حقيقيًّا على كتفي النساء: أن يُطلَب منهنّ دومًا أن يضحّين، حتى وإن كُنَّ هنّ الضحايا..وتتخلّى أمل بالفعل عن حضانة ابنتها، ولكنها لا تتنازل عن وجعها..! وفي الليل، حين تخفت الأصوات، تسمع صراخ الطفلة في داخلها: «ماما.. ماما».فتقفز من نومها لتكتشف أنّه حلم.

لم يكن صوت رحمة يأتي من الخارج، بل من داخلها، من تلك الأمّ التي لم تفارقها رغم بعد المسافة، فتواسي نفسها في سكون الليل الموجع:«أمك تسمعك يا رحمة وتشعر بكِ.. تصبحين على خير يا حبيبتي».

في هذا الهمس الصامت بين أمل الأمّ وحديثها الداخليّ، تتكثّف الرواية كلّها:امرأةٌ تحاور الغائب لتسمع نفسها، الأمومة هنا ليست حنانًا فقط، بل جرحًا مفتوحًا يذكّرها بما لم تعد قادرةً على منحه ولا على احتماله..وحين تمضي "أمل" في طريقها بعد قرار الزواج من عشيقها، تكتب لابنتها رحمة بصدقٍ يقطر ألمًا وحكمةً:

«الوجع لن يتوقَّف يا صغيرة، ولكنَّه سيتَّخذ أشكالًا أخرى، وسوف تصبحين غير قادرةٍ على تمييزه. قد ترقصين رقصةً بفستانٍ أسود أو أبيض، وتُبكين العيون والقلوب معًا، وستفرحين لذلك، لكنَّكِ لن تُدركي لحظتها أنَّ هذا هو الألم نفسه».

وفي نهاية رسالتها، تقول: «بي من التواضع ما يجعلني أُدرك أنَّني لا أستطيع إنقاذك من هذا الوجع، ولكنَّني أعرف يا صغيرتي أنَّ هذه المعاناة بالذات هي جوهر الحياة وسرّها الأكثر قداسة! »

هنا تبلغ الرواية ذروتها الوجدانية، حين يتحوّل الألم من جرحٍ شخصيّ إلى فلسفةٍ للحياة، وحين تدرك البطلة أن الحبّ لا يُنقذ من العذاب، بل يمنحه معنى فقط، دون أن يُشفى أيّ جرحٍ ملتهب.

الحق أن "حنين الصايغ" لا تكتب عن خيانة "أمل" لزوجها "سالم"، ولا تبرّرها، بل تكتب عن الإنهاك الوجوديّ الذي يصيب المرأة حين تُسحق مشاعرها بين التقاليد والواجبات...وستخرج البطلة من الرواية بلا انتصارٍ ولا هزيمة، كمن يبقى في فراغٍ بلا قاع، فقط خيطٌ رفيع بين الأمومة والأنوثة، بين ما يجب وما تريد.

وحين تنطفئ في المرأة آخر شرارة، لا يتبقّى منها سوى سؤالٍ واحدٍ يطاردها ويطارد كلّ امرأةٍ في مكانها:  هل يمكن للمرأة أن تكون حرّةً دون أن تكون مذنبة؟

الرواية، للحق، مشحونةٌ بمشاعر تتصارع في أعماق البطلة...صراعٌ دامٍ لا يتوقّف، ويزداد حدّةً، خاصةً حين تميل مشاعر امرأةٍ متزوجةٍ إلى نظرات رجلٍ عرف كيف يوقظ أنوثتها!.

نلتقي الأسبوع القادم  بإذن الله  مع قراءةٍ جديدةٍ وكتابٍ مختلف

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق