وصف الفيلسوف الفرنسي برنارد ستيجلر بأنه أحد أكثر الفلاسفة الأوروبيين تأثيرًا في القرن الحادي والعشرين، وبأنه "فيلسوف العصر الرقمي" بامتياز، ليس لأنه كتب عن التكنولوجيا فحسب، بل لأنه أعاد تعريف علاقتها بالزمن، والذاكرة، والوعي الإنساني، في مشروع فلسفي متكامل ظل محل نقاش واسع في الجامعات ومراكز البحث العالمية.
اشتهر ستيجلر بتخصصه الدقيق في فلسفة التقنية، وارتبط اسمه بمشروعه الأشهر التقنيات والزمن (Technics and Time)، وهو عمل فلسفي ضخم صدر في ثلاثة أجزاء بين عامي 1994 و2001، وامتدت كتابته من أواخر التسعينات حتى مطلع الألفية الثانية، في هذا المشروع، ينطلق ستيغلر من أطروحة مركزية مفادها أن التقنية ليست مجرد أداة خارجية يستخدمها الإنسان، بل هي عنصر تكويني في تشكّل الوعي الإنساني نفسه، ووسيط أساسي في علاقة الإنسان بالزمن والتاريخ.
استلهم ستيجلر أطروحاته من تراث فلسفي معقد يضم مارتن هايدغر، وجيل دولوز، وجاك دريدا، لكنه قدم قراءة جديدة تربط بين الذاكرة التقنية (الكتابة، الصورة، الوسائط الرقمية) وبين ما أسماه "تأريخ الوعي"، وبهذا المعنى، اعتبر أن كل ثورة تقنية تعيد تشكيل إدراك الإنسان للزمن، وأن العصر الرقمي لم يغير أنماط التواصل فقط، بل أعاد صياغة بنية الانتباه والرغبة والمعرفة.
لم يتوقف أثر ستيجلر عند حدود الفلسفة الأكاديمية، فقد كانت أفكاره محل اهتمام في مجالات متعددة، من دراسات الإعلام والسينما، إلى النقد الثقافي، وسياسات التعليم، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وأُجريت حول أعماله دراسات وأطروحات جامعية بلغات عدة، أبرزها الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، كما دُرست أفكاره في سياق نقد "الرأسمالية المعرفية" واقتصاد الانتباه.
ورغم هذا الحضور العالمي، لم يترجم لبرنارد ستيغلر أي إصدار كامل إلى اللغة العربية حتى الآن، وهو ما يطرح سؤالًا لافتًا حول فجوة الترجمة في مجال فلسفة التقنية، في وقت أصبحت فيه أسئلته حول السيطرة الرقمية، وتفكك الذاكرة، وأزمة التعليم، أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
رحل برنارد ستيغلر عام 2020، لكن مشروعه لا يزال مفتوحًا على المستقبل، بوصفه محاولة فلسفية جريئة لفهم الإنسان في زمن تحكمه الشاشات والخوارزميات، وتعيد فيه التقنية كتابة علاقتنا بالزمن، مرة بعد أخرى.

برنارد ستيغلر

كتاب
















0 تعليق