اليوم العالمى للغة العربية.. كيف أثر المصريون فى لغة الضاد؟

اليوم 7 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

فى كل عام، ومع حلول اليوم العالمى للغة العربية، يتجدد الحديث عن تاريخ العربية ومكانتها، وتحدياتها المعاصرة، لكن قليلًا ما يطرح سؤال أكثر عمقًا: كيف تشكلت العربية فى البلدان التى دخلتها؟ وكيف أثرت الشعوب فى هذه اللغة بقدر ما تأثرت بها؟.

وفى هذا السياق، تبرز التجربة المصرية بوصفها واحدة من أكثر التجارب ثراءً، إذ لم تكن مصر مجرد أرض استقبلت العربية، بل كانت فضاءً أعاد تشكيلها، نطقًا ودلالةً واستعمالًا، عبر تاريخ طويل من التفاعل الحضارى.

مصر قبل العربية.. ذاكرة لغوية لا تموت

عندما دخلت العربية مصر فى القرن السابع الميلادى، لم تدخل فراغًا لغويًا، بل التقت بتاريخ لغوى ممتد لآلاف السنين، فمع اللغة المصرية القديمة التى صنعت حضارة عظيمة، ومع التعدد اللغوى الذى تشير إليه الخطوط القديمة مثل (الهيروغليفية والديموطيقية) ومن بعد ذلك القبطية، والتأثر بالثقافات الوافدة مثل الفارسية واليونانية والرومانية؛ عاشت مصر حالة تعدد لغوى، جعل اللغة جزءًا من الوعى الجمعى لا مجرد أداة تواصل.

هذا التراكم اللغوى لم يختف مع دخول العربية، بل انتقل فى صورة بُنى ذهنية وصوتية أثرت لاحقًا فى نطق المصريين للعربية، وفى اختيارهم للكلمات، وفى طريقة بناء الجملة، ولهذا يرى باحثون فى اللسانيات أن العربية فى مصر لم تستنسخ كما هى، بل تمصرت تدريجيًا.

العربية فى مصر.. من لغة الفتح إلى لغة الحياة

فى بداياتها، كانت العربية لغة الإدارة والدين، بينما استمرت القبطية لغة للتخاطب اليومى بين عامة المصريين، ومع مرور الوقت، بدأ الامتزاج التدريجى، حتى أصبحت العربية هى لغة الشارع والبيت والسوق، لكن ليس بنفس الصورة التى كانت عليها فى الجزيرة العربية.

نشأت بذلك ما يمكن تسميته بالعربية المصرية، وهى صيغة لغوية احتفظت بجذرها العربى، لكنها حملت آثار البيئة المصرية، سواء فى الإيقاع الصوتى أو فى الدلالة، ولم يكن هذا التحول عيبًا لغويًا، بل دليلًا على حيوية اللغة وقدرتها على التكيّف.

العامية المصرية: لغة تاريخية لا لهجة عابرة

لطالما أثير الجدل حول العامية المصرية، بين من يراها تهديدًا للفصحى، ومن يعتبرها انحرافًا لغويًا، لكن النظرة التاريخية تكشف أن العامية المصرية ليست خروجًا على العربية، بل أحد تجلياتها الاجتماعية.

ومن المعروف أن هناك كلمات كثيرة يستخدمها المصريون يوميًا لها أصول ضاربة فى القدم، بعضها فرعونى أو قبطى، اندمج لاحقًا فى العربية، ومن ذلك أسماء الشهور الزراعية، مفردات الحياة اليومية، ألفاظ الطعام والبيت والعمل، هذا الامتزاج أنتج لغة قادرة على التعبير عن التفاصيل الدقيقة للحياة، وجعل المصريين يوسعون المجال الدلالى للعربية، لا سيما فى التعبير عن المشاعر والعلاقات الاجتماعية.

المصريون وحراسة الفصحى

على الجانب الآخر، لم تكن مصر ساحة تفريط فى الفصحى، بل كانت من أهم قلاع حمايتها، فقد لعب الأزهر الشريف دورًا محوريًا فى الحفاظ على العربية الفصيحة، خاصة من خلال علوم القرآن والحديث.

فعلوم التجويد والقراءات، التى تهدف إلى ضبط مخارج الحروف وصفاتها، أسهمت فى تثبيت النطق العربى الصحيح، وجعلت مصر مرجعًا لغويًا فى هذا المجال. ولم يكن هذا الجهد دينيًا فقط، بل لغويًا وثقافيًا بالأساس.

الصحافة وسيطًا

مع بدايات النهضة الحديثة، شهدت مصر تحولًا لغويًا كبيرًا، فقد فرضت الصحافة نفسها وسيطًا جديدًا بين اللغة والجمهور، وظهرت الحاجة إلى لغة مفهومة، قادرة على نقل المعرفة والأخبار دون تعقيد، وهنا برز دور مفكرين ومصلحين مثل رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده، الذين سعوا إلى تبسيط اللغة دون تفريغها من عمقها، لم يدعُ هؤلاء إلى هدم الفصحى، بل إلى تحريرها من الجمود.

اللغة الصحفية المصرية أصبحت نموذجًا عربيًا، وانتقلت تأثيراتها إلى صحف عربية أخرى، ما جعل مصر أحد المراكز الأساسية فى تحديث العربية المكتوبة.

الأدب المصرى

فى الأدب، لعب المصريون دورًا حاسمًا فى إعادة تعريف اللغة العربية، فقد أدخل طه حسين لغة تحليلية جديدة، ووسع العقاد إمكانات الجدل الفكري، بينما منح نجيب محفوظ العربية قدرة غير مسبوقة على تصوير الحياة اليومية.

لغة الرواية المصرية، التى مزجت بين الفصحى والروح العامية، صنعت نموذجًا عربيًا انتقل إلى أجيال من الكتّاب فى العالم العربى، وأسهم فى جعل العربية لغة سرد حيّة لا لغة وصف جامد.
 

المسرح والسينما

مع ظهور المسرح والسينما، خرجت العربية من صفحات الكتب إلى الأذن والعين، كما أن الحوار المسرحى والسينمائى فرض لغة وسيطة، قريبة من الناس، لكنها مفهومة عربيًا.

ومن خلال السينما المصرية، انتشرت تراكيب لغوية وتعبيرات أصبحت مفهومة ومستخدمة فى دول عربية كثيرة، وهو ما جعل العامية المصرية وسيطًا ثقافيًا عربيًا، لا مجرد لهجة محلية.

فيما لعبت الأغنية المصرية دورًا بالغ الأثر فى ترسيخ اللغة فى الوجدان العربي، فمن سيد درويش إلى أم كلثوم وعبد الوهاب، أصبحت العربية مرتبطة بالعاطفة، وبالذاكرة، وباللحظات الكبرى فى حياة الناس، هذا البعد العاطفى منح اللغة قدرة على الاستمرار، وجعل المصريين يقدمون العربية بوصفها لغة إحساس لا لغة قواعد فقط.

المصريون واللغة الحديثة

فى العصر الحديث، أسهم المصريون فى صياغة مصطلحات علمية وثقافية جديدة، عبر الترجمة، والتعليم، والإعلام، وكانت القاهرة لعقود طويلة مركزًا لإنتاج المصطلح العربى فى مجالات الصحافة والفكر والفن.

إن تجربة مصر مع العربية تكشف أن اللغة ليست كيانًا جامدًا، بل علاقة حية بين الناس والكلام، فالمصريون لم يتعاملوا مع العربية بوصفها لغة مفروضة، بل لغة عاشوا بها، وأضافوا إليها من ذاكرتهم وثقافتهم.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق