مع احتفالات ميلاد المسيح في الكنائس الغربية، نطرح سؤلا مهما: كيف عبرت المسيحية من شرق المتوسط إلى أوروبا، وكيف تحولت من جماعة دينية مضطهدة إلى دين يطبع القارة بثقافتها وفنونها وتقويمها؟
البداية كانت عبر طرق قديمة، لكنها شديدة الفاعلية، هي طرق الإمبراطورية الرومانية، فالمسيحية نشأت في بيئة شرقية (فلسطين والشام)، ثم تمددت سريعًا داخل فضاء البحر المتوسط الذي كانت روما توحده سياسيًا وإداريًا وتجاريًا، ومع اتساع المدن الكبرى، أنطاكية والإسكندرية وروما، صار السفر والرسائل والشبكات التجارية قنوات طبيعية لانتقال الأفكار والوعظ، خصوصًا في المدن المينائية والمراكز الإدارية.
ويشير التقليد المسيحي المبكر وسرد "سفر أعمال الرسل" إلى نقطة مفصلية تقدم عادة بوصفها "العبور الأول إلى أوروبا"، رحلة بولس الرسول إلى مقدونيا بعد ما يُعرف بـ"رؤيا المقدوني" (أعمال الرسل 16: 9)، ومنها بدأ نشاط تبشيري في فيلبي ثم امتد إلى مدن يونانية ضمن المجال الأوروبي القديم، كما تؤكد كتابات حديثة تتبّع مسار بولس في اليونان أن اليونان كانت "منعطفًا" في انتقال الرسالة إلى أوروبا.
لكن الوصول الجغرافي وحده لا يفسر التحول التاريخي الكبير، فحتى القرون الأولى، ظل المسيحيون يواجهون موجات من الاضطهاد داخل الإمبراطورية، ثم جاء المنعطف السياسي الحاسم سنة 313م مع "مرسوم ميلانو" الذي ارتبط بقسطنطين وليسينيوس، وأرسى مبدأ التسامح الديني ومنح المسيحية وضعًا قانونيًا داخل الدولة الرومانية، ما أتاح للكنيسة أن تعمل علنًا وتبني مؤسساتها بلا خوفٍ من الملاحقة.
بعد ذلك بنحو سبعة عقود، ترسّخ التحول على مستوى الدولة نفسها: ففي 27 فبراير 380م صدر "مرسوم تسالونيكي" في عهد ثيودوسيوس الأول، والذي جعل المسيحية النيقاوية هي الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية، فاتسع نطاق المسيحية في أوروبا بوصفها دين السلطة والقانون والتعليم، لا مجرد جماعات دينية محلية.
ومع انهيار القسم الغربي من الإمبراطورية لاحقًا، لم تختفِ المسيحية من أوروبا، بل تحولت إلى شبكة جامعة، أديرة، وأسقفيات، ومدارس، وطقوس، وفنون، ثم جاءت مرحلة "تنصير الشعوب" خارج المجال الروماني القديم عبر بعثات كنسية متتابعة، ومن أشهر أمثلتها بعثة أوغسطين إلى إنجلترا سنة 597م (المعروفة ببعثة جريجوريوس)، التي تُذكر عادة بوصفها محطة مركزية في ترسيخ المسيحية بين الأنجلو-ساكسون.
وهكذا، يمكن تلخيص "دخول المسيحية أوروبا" في ثلاث موجات كبرى، عبور تبشيري مبكر عبر اليونان والمدن الرومانية، ثم تقنين سياسي عبر مرسوم ميلانو، ثم اعتماد رسمي عبر مرسوم تسالونيكي، قبل أن تكتمل الخريطة تدريجيًا ببعثات التبشير إلى أطراف القارة.

















0 تعليق