ليس كل شرّ يحتاج إلى فعل ليُقنعك بوجوده، أحيانًا يكفى أن تسمعه، نبرة ثابتة، خالية من الانفعال، تحمل فى بطئها تهديدًا غير معلن، وتترك فى المشهد فراغًا مقلقًا.. هكذا كان حضور صلاح نظمى: شرّ يتقدّم بالصوت قبل الحركة، وبالإحساس قبل الحدث.
لم يكن يعتمد على العنف الظاهر أو الانفعالات الحادة. شرّه كان صامتًا فى أغلب الأحيان، محسوبًا، يتسلّل من بين الكلمات لا من صراخها. نظرة عين واحدة كانت كافية لتغيير مزاج المشهد، وجملة قصيرة تُقال ببرود كانت أبلغ من أى مواجهة مباشرة. فى هذا الاقتصاد التعبيرى، صنع صلاح نظمى شخصيته الفنية، وميّز نفسه عن غيره من ممثلى هذا اللون.
صوته العميق لم يكن تفصيلًا ثانويًا، بل أداة درامية كاملة. صوت يحمل ثقلًا نفسيًا، ويمنح الشخصية سلطة خفيّة، كأنها تعرف ما لا يعرفه الآخرون. أحيانًا، كان المشهد يبدأ بالانضباط لحظة أن يبدأ بالكلام، وأحيانًا أخرى يكفى الصمت الذى يسبقه ليزرع القلق فى نفوس من يشاهد.
تميّز فى تجسيد الشر المركّب، ذاك الذى لا يقدّم نفسه بوصفه شرًا مطلقًا، بل نتيجة طبيعية لمسار داخلى مختل: طموح لا يعرف حدًا، ماضٍ ثقيل، أو رغبة فى السيطرة لا تحتاج إلى تبرير أخلاقى. لذلك بدت شخصياته مقنعة ضمن عالمها، حتى فى أقسى لحظاتها، وجعلت المشاهد يرفضها إنسانيًا ويقدّرها فنيًا فى الوقت نفسه.
وعلى الرغم من مشاركته فى عشرات الأعمال السينمائية والتليفزيونية، لم يكن صلاح نظمى ممثل حضور عابر. حتى الأدوار الصغيرة كانت تتّسع معه، لأنّه يعرف كيف يشغل المساحة من دون افتعال. لم يسعَ إلى البطولة المطلقة، ولم يطارد الأضواء، بل اختار الإتقان والدقّة، فصار اسمه مرتبطًا بنمط معيّن من الشخصيات التى تتطلّب ممثلًا يثق بأدواته ويعرف متى يستخدمها.
ما يميّز تجربته أيضًا وعيه بإيقاع المشهد. كان يعرف متى يتقدّم خطوة، ومتى يتراجع، ومتى يترك للصمت أن يقول ما لا تقوله الكلمات. هذا الفهم العميق للتوازن بين الأداء والكتمان جعله عنصرًا أساسيًا فى المشاهد المشحونة نفسيًا، حيث يكمن الخطر فيما لا يُقال أكثر مما يُقال.
صلاح نظمى لم يكن مجرّد «ممثل أدوار شر»، بل فنان أدرك حساسية هذا اللون، وقدّمه باحترام لعقل المشاهد وصدق فى التعبير. لذلك بقى صوته وملامحه عالقين فى الذاكرة، لا كصورة نمطية، بل كعلامة خاصة من علامات زمن سينمائى كان يؤمن بأن الأداء الهادئ قد يكون أكثر رعبًا من أى ضجيج، وأن الشر الحقيقى لا يحتاج إلى رفع صوته كى يُصدَّق.

















0 تعليق