معركة الوعي 6: الثقافة والتعليم – أيّ مستقبل للوعي في مصر؟

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لا يمكن فصل الثقافة عن التعليم، فهما وجهان لعملة واحدة. فالثقافة من دون تعليم تتحول إلى خطاب نخبة معزول لا يجد جمهورًا، والتعليم من دون ثقافة يتحول إلى عملية ميكانيكية تفرز موظفين محدودي الأفق، لا مواطنين أحرارًا. إن ربط الثقافة بالتعليم ليس ترفًا تنظيريًا، بل هو المدخل الحقيقي لمعركة الوعي في مصر. فالمدرسة ليست فقط مكانًا لتلقين المعلومات، بل فضاء لبناء المخيال الجمعي، وغرس القيم الجمالية، وصناعة المواطن القادر على النقد والإبداع.

 

منذ تأسيس الدولة الحديثة على يد محمد علي، ظل التعليم في مصر مشروعًا سياسيًا أكثر منه مشروعًا ثقافيًا؛ فقد صُمّم ليخدم الإدارة والجيش، ثم ليُخرج موظفين قادرين على تسيير جهاز الدولة. غير أن البعد الثقافي في التعليم ظل غائبًا أو ثانويًا. ولعل أبرز دليل على ذلك أن مناهج اللغة العربية مثلًا، التي يُفترض أن تكون حاملة للهوية الجمالية والفكرية، تحولت إلى نصوص مقطّعة تخلو من أي سياق نقدي أو أدبي حي. وهكذا أُفرغ التعليم من محتواه الثقافي، وبقي أداة وظيفية لا مشروعًا نهضويًا.

 

لقد نبّه طه حسين في مستقبل الثقافة في مصر (1938) إلى أن التعليم هو المدخل الأساسي للثقافة، وأن أي مشروع وطني يجب أن يجعل الثقافة جزءًا لا يتجزأ من المناهج والبرامج المدرسية. لكننا، حتى اليوم، ما زلنا نكرر الأخطاء ذاتها: مناهج تقليدية تعتمد على الحفظ والتلقين، وامتحانات تقيس قدرة الطالب على التذكّر لا على الإبداع، ومعلمون يفتقرون إلى تدريب ثقافي يجعلهم قادرين على أن يكونوا قادة رأي، لا مجرد موظفين. والنتيجة أن التعليم، بدل أن يفتح أبواب الخيال، يغلقها، وبدل أن يُنتج مثقفين، يُنتج جيلًا يبحث عن الدرجات والشهادات أكثر من بحثه عن المعرفة.

 

إن العلاقة بين التعليم والثقافة تتضح أكثر حين نلاحظ كيف تتعامل المجتمعات الحديثة مع المناهج الدراسية. ففي فنلندا مثلًا، تُبنى المناهج على التفكير النقدي والإبداع، وتُعطى الفنون والآداب مكانة أساسية تعادل العلوم. والنتيجة أن الطالب يخرج بوعي ثقافي متكامل، يجمع بين العلم والفن، بين التقنية والجمال. أما في كوريا الجنوبية، فقد جرى دمج الثقافة في النظام التعليمي بشكل جعل من الفنون والإعلام الرقمي مكونات أساسية لبناء الشخصية القومية. وتكشف هذه التجارب أن التعليم ليس مجرد أداة للمعرفة التقنية، بل مصنع للهوية الثقافية.

 

المشكلة في مصر أن التعليم يُدار غالبًا بوصفه قطاعًا إداريًا منفصلًا عن الثقافة؛ فوزارة التربية والتعليم تعمل في جزر منعزلة عن وزارة الثقافة، ولا يوجد مشروع وطني يوحّد الرؤية بينهما. هذا الانفصال يخلق فجوة في وعي الطالب، إذ يتلقى في المدرسة مناهج تقليدية جافة، ثم يواجه خارجها خطابًا ثقافيًا مشوشًا يأتي من الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. وهكذا يبقى عقله في حالة ازدواجية: تعليم رسمي يلقّنه، وثقافة عشوائية تشتته.

 

لقد كتب باولو فريري في تعليم المقهورين (1970) أن التعليم القائم على التلقين ليس إلا أداة لإعادة إنتاج القهر الاجتماعي، لأنه يحوّل الطالب إلى وعاء سلبي يتلقى المعرفة، بدل أن يكون مشاركًا فاعلًا في إنتاجها. وتنطبق هذه الفكرة بدقة على الحالة المصرية، حيث يُختزل الطالب في كونه متلقيًا للمعرفة الرسمية، من دون أي قدرة على النقد أو التفاعل. والنتيجة أن المدرسة لا تُنتج مواطنًا، بل موظفًا، ولا تُنتج مثقفًا، بل حافظًا للمقررات.

 

وإذا كانت الثقافة هي معركة الوعي، فإن التعليم هو خطها الأول. فلا يمكن أن نتحدث عن وعي نقدي أو إبداعي في مجتمع يغيب فيه التفكير النقدي عن المدارس والجامعات. إن غياب الفلسفة عن المناهج، وتهميش الأدب والفنون، وتحوّل حصص الموسيقى والرسم إلى مواد ثانوية بلا أهمية، كل ذلك يعكس رؤية ترى في الثقافة شيئًا كماليًا لا ضرورة حياتية. وهذا هو أصل الأزمة: النظر إلى الثقافة كترف، لا كشرط وجود.

 

المخرج من هذا المأزق لا يكمن في إصلاحات تجميلية، بل في ثورة حقيقية تربط الثقافة بالتعليم على كل المستويات. البداية من المناهج، بحيث تصبح نصوص الأدب والفكر والفنون جزءًا أساسيًا من تكوين الطالب. ثم من تدريب المعلمين، بحيث لا يكون المدرس ناقلًا للمعلومة فقط، بل مثقفًا قادرًا على إلهام طلابه. وأخيرًا من الأنشطة المدرسية، التي يجب أن تتحول إلى فضاء للإبداع، من المسرح المدرسي إلى الصحافة المدرسية إلى معارض الفنون. وهذه ليست تفاصيل ثانوية، بل أدوات حقيقية لصناعة الوعي.

 

إن أي خطة وطنية للثقافة لا بد أن تضع التعليم في قلبها. فلا جدوى من بناء مسارح كبرى أو إطلاق مهرجانات ضخمة، إذا كان جيل كامل يخرج من المدارس بلا حس نقدي أو جمالي. فالثقافة تبدأ من مقعد الدراسة، ومن الكتاب المدرسي، ومن طريقة طرح السؤال داخل الفصل. وإذا لم ندرك ذلك، فستظل الثقافة حبيسة قاعات المؤتمرات، بعيدة عن الناس.

 

لقد كتب إدغار موران في تربية المستقبل (2001) أن التعليم لا يكتفي بنقل المعرفة، بل يصنع العقول التي تفكر في المستقبل، ويمنح الناس القدرة على مواجهة التعقيد. ومن دون هذا البعد الثقافي، يظل التعليم مجرد تدريب آلي. وفي مصر، نحتاج إلى أن نعيد لهذا التعليم روحه الثقافية، بحيث لا يكون هدفه إنتاج موظفين، بل إنتاج مواطنين أحرارًا قادرين على النقد والإبداع والحلم.

 

إن معركة الوعي في مصر ستُحسم في قاعات الدراسة قبل أن تُحسم في قصور الثقافة. فإذا استمر التعليم معزولًا عن الثقافة، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة: نخبة صغيرة تتداول الأفكار، وجماهير واسعة تستهلك خطابًا عشوائيًا بلا نقد. أما إذا استطعنا أن نربط بين الاثنين، فإننا سنمتلك مشروعًا وطنيًا قادرًا على صناعة وعي جديد، لا وعيٍ مُستعار.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق