ولد إيرل سوثرلند في بيئة بسيطة، وجذبته العلوم الطبية منذ سنواته الأولى، اختار دراسة الصيدلة، لكنه لم يكتفي بمعرفة تركيب الدواء، بل كان شغوفًا بفهم كيف يتفاعل داخل الجسم، وكيف تستجيب الخلايا له، كان يسأل دائمًا: كيف تتخذ الخلية قراراتها؟ وما هي اللغة التي تستخدمها للتواصل مع الخلايا الأخرى؟
البحث عن الرسائل الغامضة داخل الجسم
من خلال عمله في المختبر، لاحظ سوثرلند أن الهرمونات لا تتفاعل مباشرة مع الخلايا كما كان يعتقد، بل يبدو أنها ترسل إشارات معينة تحفز الخلية لتقوم بوظيفتها، كانت هذه الملاحظة بداية ثورة علمية جديدة، إذ قادته إلى اكتشاف أن هناك رسائل كيميائية داخلية، تعمل كوسيط بين الهرمون والخلية، وتسمح بنقل الأوامر داخل الجسم.
اكتشاف الرسول الثاني.. لغة خفية داخل الخلية
عام 1958، توصل سوثرلند إلى واحد من أهم الاكتشافات في علم وظائف الأعضاء، وهو ما يعرف بـ"الرسول الثاني"، والذي تمثل في مركب يسمى (AMP Cyclic)، أو "ال cyclic AMP"، هذا المركب يعمل كحلقة وصل بين الإشارة التي تستقبلها الخلية من الخارج وبين استجابتها الفعلية داخلها بهذا، اكتشف سوثرلند اللغة التي تتواصل بها الخلايا، وكيف تترجم هذه الرسائل لتكوين استجابة دقيقة ومنظمة.
كيف غير هذا الاكتشاف فهم الطب؟
قبل اكتشافه، كان العلماء يعتقدون أن الهرمون يدخل إلى الخلية مباشرة ويحدث تأثيرًا مباشرًا، لكن سوثرلند أثبت أن الخلية لا تسمح بدخول الهرمون، بل تكتفي باستقباله عبر سطحها الخارجي، ثم تنقل الرسالة عبر "الرسول الثاني". هذا المفهوم الثوري فتح آفاقًا لفهم كيفية تنظيم الجسم لعمليات مثل التمثيل الغذائي، وإفراز الأنسولين، وتنظيم ضغط الدم، وآليات عمل الجهاز العصبي.
إسهاماته في علاج الأمراض وفهم السلوك الخلوي
ومهد هذا الاكتشاف الطريق أمام علماء الطب لفهم كيفية تأثير الأدوية في الجسم، وكيفية حدوث اختلالات داخل الخلايا تؤدي إلى أمراض مثل السكري، وأمراض القلب، والاكتئاب، وساهم أيضًا في تطوير أدوية تعتمد على فهم آليات التواصل بين الخلايا، وتحديد النقاط التي يمكن التدخل فيها لعلاج المرض بدقة وفاعلية.
رحلة مليئة بالإصرار وشغف المعرفة
رغم أن اكتشافه واجه في البداية شكوكًا واسعة من العلماء، واعتبره البعض مجرد فرضية، إلا أن سوثرلند واصل أبحاثه بإيمان عميق بأفكاره، ومع مرور الوقت، أثبتت التجارب العلمية صحة اكتشافه، وأصبح أساسًا لعلم الاتصالات الخلوية الذي يدرس اليوم في الجامعات حول العالم.
تتويج علمي مستحق
جاء التكريم العالمي عندما حصل على جائزة نوبل في الطب تقديرًا لأبحاثه التي كشفت آلية التفاعل بين الهرمونات والخلايا، وأحدثت تحولًا جذريًا في فهم علم وظائف الأعضاء على المستوى الخلوي.
إيرل سوثرلند لم يكن مجرد عالم صيدلة، بل كان رائدًا أعاد تعريف فهمنا لجسم الإنسان، هو الرجل الذي كشف اللغة الخفية بين الخلايا، ورسائلها السرية، وكيف تصدر قراراتها الدقيقة، لقد برهن أن داخل أجسامنا عالمًا نابضًا بالحوار والتواصل، لا نراه، لكنه يتحكم في كل نبضة وخطوة ونفس.
















0 تعليق