خلخال ماريا الإسكندرانية

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

فى قلب مدينة الإسكندرية العتيقة، تلك المدينة التى تمزج بين أمواج البحر وأعمدة التاريخ، كانت ماريا تعيش حياة بسيطة، حياة بُنيت على الروتين والانطباعات الأولى. لم تكن تتوقع يومًا أن ترتدى قطعة مجوهرات ستنقلها إلى عالم آخر، عالم من الخفاء والتجلى، لتصبح أسيرة أسرار الإسكندرية العتيقة.

كانت ماريا ابنة لعائلة من أصول يونانية، وجدت فى المدينة مأوى وملجأ منذ أجيال. ورثت عن جدتها خلخالًا ذهبيًا يزدان بنقوش غامضة كانت تظنها مجرد زخارف. ارتدت الخلخال وكأنها ترتدى جزءًا من ماضيها، ولكنها لم تدرك أن هذه الزينة تُخفى وراءها عالمًا من الغموض والأسرار التى ستغير مجرى حياتها.

فى صباح يوم خريفى، عندما كانت الشمس تضىء أزقة المدينة العتيقة بأشعتها الذهبية، تلقت ماريا اتصالًا مفاجئًا من إيوان، صديقها القديم، الذى بدا صوته متوترًا على غير العادة. طلب منها لقاءه فى الأزاريطة بالقرب من مكتبة الإسكندرية. لم يكن المكان عاديًا؛ فقد اختار أن يلتقيا فى مخبأ قديم يعود إلى عهد بطليموس الثانى، كان مكانًا مليئًا بالرموز والإشارات الغامضة.

عندما وصلت ماريا شعرت بتغير فى الجو، وكأن الزمن توقف فى تلك اللحظة، وكأن المكان نفسه يحمل قصصًا لم تُروَ بعد. على جدران المخبأ، تداخلت الرسوم المصرية القديمة والإغريقية، ممزوجة بألوان باهتة من الزمن، وكأنها تريد أن تبوح بأسرارها لمن يقف هناك. انتابها شعور غريب، شعور بأنها كانت جزءًا من هذا المكان.

وجدت ماريا إيوان فى انتظارها، ولكن لم يكن وحده. كان بجانبه رجل غريب الملامح، ذو وجه مشدود وعينين تلمعان بنظرة غامضة. كان يحمل حقيبة كبيرة ممتلئة بالأوراق القديمة والرموز، التى بدت وكأنها تنتمى إلى عالم السحر والخرافات.

قال إيوان بنبرة مفعمة بالتوتر: «ماريا، هذا يوسف، هو عالم آثار وخبير فى تاريخ الإسكندرية القديمة، خصوصًا الأسرار التى تخفيها هذه المدينة».

تبادلت ماريا نظرات مترددة مع يوسف قبل أن تقول: «ما الذى يحدث؟ لماذا جئت بى إلى هذا المكان؟ وما علاقة هذا الخلخال بكل هذا؟».

ابتسم يوسف ابتسامة خفيفة، كاشفًا عن ملامح تجربة عميقة، وقال: «الخلخال الذى ترتدينه ليس مجرد قطعة مجوهرات، إنه رمز لقوة عظيمة ترتبط بتاريخ هذه المدينة وأسرارها، هذا الخلخال هو مفتاح لباب لا يستطيع فتحه إلا مَن يتمتع بالقدرة على فهم ما وراء الظاهر».

شعرت ماريا بفضول مُلح، ولكنها أيضًا شعرت بالخوف. كيف يمكن أن تكون قطعة صغيرة مثل هذا الخلخال تحتوى على كل هذه الأسرار؟ بدأت رحلة البحث عن الحقيقة، حيث قررت أن تتبع يوسف وإيوان فى مغامرة لا تعرف نهايتها، مغامرة تعيد اكتشاف ذاتها وتعيد فهمها لكل ما تعرفه عن تاريخ مدينتها.

بدأ يوسف فى شرح تفاصيل أكثر عن الخلخال، مشيرًا إلى النقوش الغامضة التى تغطيه. قال بنبرة جدية: «هذا الخلخال مرتبط بأسطورة قديمة، أسطورة تقول إنه يحمل سرَّ لعبة الخفاء والتجلى. تبدأ هذه اللعبة عندما يظهر الخلخال للمرة الأولى، ومنذ تلك اللحظة، يُختار شخص ليحمل على عاتقه مسئولية كشف الأسرار الخفية».

نظرت ماريا إلى الخلخال بتمعنٍ، لتلاحظ لأول مرة أن النقوش بدت وكأنها تتغير، تتحرك بخفة فى ضوء المكان الخافت: «ماذا تعنى بلعبة الخفاء والتجلى؟ وكيف يمكن للخلخال أن يحمل سرًا قديمًا؟» سألت، محاولة أن تفهم.

أجاب يوسف: «الخلخال ليس مجرد مفتاح، بل هو وُجِد فى الإسكندرية كأداة لربط العالم المادى بالعالم الروحى. كانت لعبة الخفاء والتجلى تُستخدم قديمًا من قبل حكماء المدينة لتمويه الحقائق وتجليها فى أوقات محددة. كانت تُستخدم هذه اللعبة لحماية أسرار لا يفهمها إلا من خاض هذا الطريق».

بينما كانت ماريا تستوعب هذه المعلومات، بدأت تشعر وكأنّ شيئًا يتحرك داخلها، وكأنها فى اختبار يتحدى كل معتقداتها القديمة. فجأة سمع الجميع صوتًا منخفضًا يشبه الهمسات، وكأن المكان يردد كلمات مجهولة لا يفهمها إلا مَن يحمل الخلخال. كانت الهمسات تتردد فى أذن ماريا، تقول لها: «عندما تشرعين، لن تكون هناك عودة للوراء».

نظرت ماريا إلى يوسف وإيوان بارتباك، وقالت: «سمعت شيئًا، همسات تقول لى إنه لا عودة بعد هذه النقطة».

ابتسم يوسف ابتسامة خفيفة وقال: «أنتِ الآن فى منتصف اللعبة، وكل خطوة تأخذك أعمق نحو الحقيقة. الآن عليك أن تقررى، هل ستكملين أم ستعودين إلى حياتك القديمة؟».

شعرت ماريا بالتردد، ولكنّ شيئًا فى داخلها دفعها للمضى قدمًا، وكأنّ هناك صوتًا فى قلبها يقول إنها وُلدت من أجل هذا. قررت أن تستمر، وأن تخوض لعبة الخفاء والتجلى، لعلها تكتشف أسرار المدينة التى ظلت خافية لقرون.

بدأ يوسف فى تعليم ماريا تقنيات قديمة كانت تُستخدم لفهم الرموز وتحليل الأسرار. علّمها كيفية قراءة النقوش، وكيفية استشعار التغيرات الخفية التى تحدث فى المكان والزمان. كانت تتعلم بسرعة، وكلما تقدمت فى تعلمها كانت تشعر بأنها تقترب من حل لغز عظيم.

بعد أسابيع من التدريب، قرر يوسف أن يأخذها إلى موقع أثرى غامض يقع تحت المدينة. كانت هناك غرفة تحت الأرض مليئة بالرموز والنقوش التى تشير إلى تاريخ الإسكندرية المفقود. عندما دخلت ماريا تلك الغرفة، شعرت وكأنها تُنقل إلى زمن آخر، وكأن المكان ينبض بالحياة. أدركت أنها الآن فى مركز اللعبة، حيث يجب عليها أن تواجه الحقائق وتقرر مصيرها.

كانت الغرفة تحتوى على لوحات حجرية ضخمة تحمل نقوشًا لأحداث تاريخية لم تُسجل من قبل، وأخرى لنبوءات عميقة تتحدث عن مستقبل المدينة.

بينما كانت ماريا تقرأ إحدى اللوحات، لاحظت شيئًا غريبًا يحدث. بدأت الرموز تتوهج بضوء ذهبى، وبدأت الحروف تتجمع لتشكل كلمات مفهومة. وجدت نفسها تقرأ بصوت مرتفع: «الخلخال هو مفتاح البوابة. بوابة الزمن التى تربط الماضى بالحاضر، وتحفظ مستقبل المدينة».

فجأة، انفتح باب خفى داخل الغرفة، ليظهر ممر مظلم يقود إلى مكان مجهول. تقدم يوسف إلى الأمام، ونظر إلى ماريا نظرة تحدٍ وقال: «هذه هى المرحلة الأخيرة فى اللعبة. إن دخلتِ، فستواجهين كل الأسرار، وكل الإجابات التى تبحثين عنها».

نظرت ماريا إلى الباب المفتوح، وترددت للحظة، لكنها شعرت بدافع قوى للمتابعة. دخلت الممر برفقة يوسف، تاركة خلفها إيوان، الذى بدا عليه القلق ولكنه كان يعلم أن هذا قرارها وحدها.

فى نهاية الممر المظلم الذى بدا وكأنه يقودها إلى عالم آخر، وجدت ماريا نفسها أمام غرفة صغيرة، بسيطة فى مظهرها، لكنها مشبعة بهالة غامضة تثير فى النفس رهبة وتملأ الأجواء بشعور خفى من الاحترام الممزوج بالخوف. 

فى وسط الغرفة، ظهر تمثال قديم يجسد امرأة ترتدى خلخالًا مماثلًا تمامًا للذى تحمله ماريا حول كاحلها، لامعًا ببريق يوحى بقوة باطنية. أثار هذا المشهد شعورًا من الدهشة بداخلها؛ فقد بدا وكأن القدر جمع بينها وبين هذه المرأة التى مرت من هنا قبلها بزمن بعيد، حاملة سرًا مشتركًا كأنما يعيد الزمن نفسه بطريقة غريبة.

اقتربت ماريا من التمثال بتأنٍ، وأخذت تدرس تفاصيله المتقنة التى عكست براعة الفنان ونقلته إلى مستوى آخر من الواقعية. كان وجه التمثال هادئًا ولكن ملامحه عميقة، تنبض بلمحة من الحكمة وكأنها تخفى قصصًا وأسرارًا لم تُروَ. شعرت بروابط خفية تجمعها بهذه المرأة القديمة التى لم تكن مجرد تمثال، بل كانت رمزًا قديمًا لروح تغلبت على عقبات وأسرار مخبأة وراء هذا الخلخال.

مع كل لحظة تقضيها أمام التمثال، ازداد شعور ماريا بأن هذا التمثال لم يكن موجودًا هنا صدفة، بل كان يرشدها نحو كشف أعماق اللعبة التى بدأت دون علمها. كانت تشعر وكأنها تعيش لحظات المرأة القديمة، كأن هذا التمثال يمثل رحلتها الخاصة. تملكتها فكرة أن تلك المرأة خاضت مغامرة مماثلة، لعبة من الخفاء والتجلى، لعبة حيث لا شىء يبدو كما هو، وعليها أن تكشف الأسرار بحذر.

بينما كانت ماريا تحدق فى عينىّ التمثال، شعرت بتساؤل مُلحّ يخترق أعماقها: هل هى بالفعل تسير على خطى هذه المرأة؟ وهل سيكون مصيرها مرتبطًا بمصيرها فى لعبة الأسرار التى تجمع بين العالمين؟.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق