من البوابة الخلفية إلى واجهة التاريخ... سوريا تتقدّم ولبنان يتقهقر

لبنان24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
لم يكن دخول الرئيس السوري احمد الشرع إلى البيت الأبيض من بوابة خلفية أقّل أهمية من حدث الزيارة بحدّ ذاتها. وكما دخل خرج. لم ترافقه كاميرات النقل المباشر، ولم يُعرف ماذا دار من أحاديث وراء الأبواب المغلقة. لم نشهد حديثًا مباشرًا للرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو الذي يفتش دائمًا عن الاثارة الإعلامية. المشهد في البيت الأبيض كان مختلفًا عمّا سبقه من لقاءات مماثلة كاللقاء مع الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي.

Advertisement


ولكن ما لم يصدر عن محادثات البيت الأبيض صدر عن وزارة الخزانة الأميركية عن تعليق العمل بعقوبات قانون قيصر كخطوة أولى تمهيدية ومشروطة لرفعها في مرحلة لاحقة كليًا.

أن يدخل رئيس سوري إلى البيت الأبيض من البوابة الخلفية، فذلك وحده كفيل بأن يختصر عقوداً من الصراع والقطيعة. لكن أن يُعلَن في الوقت نفسه عن تعليق العمل بقانون قيصر، فالمسألة تتجاوز الرمزية إلى ما يشبه انقلاباً في السياسة الأميركية تجاه دمشق، ولو بجرعات مدروسة ومؤقتة. فالبيت الأبيض لا يفتح أبوابه مجاناً، ولا يمدّ اليد إلا إذا كان في الحسابات ما هو أكبر من المجاملات.

فواشنطن، المثقلة بملفات الشرق الأوسط من غزة إلى بغداد مرورًا بلبنان، وجدت في دمشق مدخلاً لإعادة ضبط التوازنات، لأن سوريا بالنسبة إلى الإدارة الأميركية ليست مجرّد نظام، بل عقدة جغرافية وسياسية يمكن أن تُفتح منها أبواب النفط والغاز، وتُقفل منها أبواب المهاجرين والمخدرات. لذا، فتعليق قانون قيصر، في رأي أكثر من ديبلوماسي غربي، ليس "هدية" للنظام، بل استثمار أميركي في الاستقرار الإقليمي بعدما فشلت سنوات العزل في تحقيق أي تغيير جوهري.

أما لبنان، وهو الجار الأقرب إلى سوريا، ولا تفصل بين عاصمتهما سوى كيلومترات ليلة، فقد دفع الثمن الأكبر من الحرب والعقوبات معاً، وهو يقف اليوم مجدداً على حافة الفرصة السانحة. فرفع العقوبات عن سوريا يعني بالنسبة إلى بلد مثل لبنان يعاني ما يعانيه منذ عقود إعادة فتح خطوط التجارة البرية عبر المعابر المشتركة، تنشيط قطاعات النقل والصناعة اللبنانية، وإحياء مشاريع إعادة الإعمار التي يمكن لشركات لبنانية أن تدخلها بخبرة وسرعة.

لكن التجربة اللبنانية لا تبشّر بالخير. فبعض السياسيين أنفسهم الذين ضيّعوا فرصة إعادة الإعمار بعد الحرب السورية، والذين حولوا معابر الدولة إلى مزاريب تهريب، يستعدّون اليوم لإضاعة فرصة ثانية، هذه المرّة تحت عنوان "ننتظر توضيحات من واشنطن". وهذا ما يندرج، إذا صحّ التعبير" تحت عنوان وحيد، وهو "أن الخوف من الاستفادة هو مرض لبناني مزمن".

ففي كل مفصل تاريخي، يُصاب لبنان بـ "داء الحذر والتردّد المبالغ بهما". يخاف أن يغضب الأميركي، وفي الوقت ذاته لا يريد أن يُدخل نفسه في علاقة متوترة مع دول الخليج، وبالأخص مع المملكة العربية السعودية، أو أن يتّهمه الأوروبي بأنه منحاز بكليته للسياسة الأميركية، مع ما تشهده ساحته الداخلية من خلافات تجعل أهل الحكم يزينون الأمور ومفاعيلها بميزان الجوهرجي، فينتهي دائماً إلى الخسارة، وإلى تضييع الفرص، وقد يدخل في هذا المجال موسوعة "غينيس" كأول بلد في تسجيل تضييع الفرص السانحة.

بينما نجد دولًا مجاورة وعلى الحدود السورية كالأردن والعراق استعدّت منذ الآن لمرحلة ما بعد رفع العقوبات بموجبات قانون قيصر بخطط اقتصادية وحدودية دقيقة، نرى أن لبنان لا يزال يتعامل مع الحدث كما لو أنه "خبر خارجي". لا لجنة اقتصادية مشتركة مع دمشق، لا رؤية وزارية واضحة، ولا حتى بيان رسمي واحد يحدد كيفية تعاطي الحكومة مع الانفتاح الجديد.

فتعليق العقوبات لا يعني بطبيعة الحال نهاية الحرب السياسية على سوريا، لكنه بداية تحوّل واقعي في المقاربة الدولية.  وإذا لم يلتقط لبنان هذه اللحظة، فسيجد نفسه بعد أشهر متفرجاً على قوافل إعادة الإعمار تمرّ عبر حدوده من دون أن يستفيد منها إلا المهربون.

فالاقتصاد اللبناني في حاجة إلى رئة تنفس جديدة، وسوريا هي الرئة الطبيعية، ليس فقط لتصدير السلع، بل لتبادل الخدمات، ولربط لبنان بالعمق العربي والآسيوي براً من جديد.
فسوريا - الشرع، التي دخلت إلى البيت الأبيض من البوابة الخلفية، عادت إلى المسرح الدولي من باب التاريخ. أما لبنان فلا يزال في سبات عميق، وإذا لم يستيقظ  سريعاً من غفوته السياسية، فسيجد نفسه مجدداً على هامش المشهد، يصفّق لنجاحات الآخرين ويحصي خسائره بمراكمة أرقام لا تُحصى ولا تُعدّ.

لقد أزيلت القيود على سوريا مؤقتاً، فهل يملك لبنان الجرأة ليُطلق يديه، أم يفضّل أن يبقى مكبّل الإرادة، يقتات من "الانتظار" كما يقتات من الأزمات؟

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق