في المشهد الشعري المصري المعاصر، يظهر حضور الجسد الأنثوي بوصفه ساحةً تتقاطع فيها الأسئلة الوجودية والثقافية والجمالية، يتجاوز الجسد في قصيدة المرأة مجرّد استعارة للغواية أو الحنين، كما كان في التراث الشعري العربي، ليطل علينا في صورة ذاكرة حيّة تستعيد عبرها الشاعرات تجارب الألم والولادة والغياب والتحول من خلال القصيدة، تُعيد المرأة المصرية كتابة جسدها المقموع اجتماعيًا والمراقَب أخلاقيًا، لتمنحه لغته الخاصة وقدرته على الشهادة.
غير أن هذا البوح الشعري لا يخلو من المخاطر؛ فثمة خطوط حمراء لا تزال تحاصر القلم الأنثوي، تُرسم باسم التقاليد أو الدين أو الحياء، تحدثنا الشاعرة نهى البلك عن الجسد الأنثوي في قصيدة المرأة، والخطوط الحمراء التي تقوض الكتابة.
وقالت الشاعرة نهى البلك: “يظل من الصعب قياس مدى تحرر المرأة في كتابتها عن نفسها وآلامها وحتى جسدها، فالأمر يتعلق بأكثر من جانب: طبيعة الكتابة الأدبية كفن غير مباشر في الأصل، وطريقة تعبير المرأة بين التعمد والقصدية والعفوية، والمجتمع ومتطلباته ونظرته للمرأة ومدى تقديره لحقها في التعبير عن ذاتها، ثم مدى اعتبار المرأة للمجتمع ونظرته وردود أفعاله تجاهها”.
وأشارت البلك إلى أن المجتمع الآن في حالة فوران وتغيرات كبيرة وسريعة، ليس بالضرورة للأفضل بالمناسبة، لكنها ترى أننا لازلنا في مرحلة الصراع والتحولات، ولم نستقر بعد على نظرة أو موقف واضح من كل شيء، خاصة مسائل الحريات وما تعنيه، وكل ما يتعلق بالمرأة.
وأوضحت البلك: “لكن طوال الوقت، ومنذ عصور قديمة، تجد المرأة لنفسها مخرجًا دائمًا للتعبير عن نفسها وأخص وأدق مشاعرها، وكلنا نعلم قصة الزوجة التي سمعها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب تردد أبياتًا من الشعر تشكو فيها وحدتها وآلامها أثناء غياب زوجها في إحدى الغزوات، بكلمات جريئة وواضحة المعنى، دون فجاجة”.
وأضافت البلك: “لا أظن أنه كان هناك في أي وقت من الأوقات خطوط حمراء، أو أقل حدة، تمنع المرأة من التعبير عن ذاتها وخصوصية تكوينها الجسدي والنفسي بأي لغة متاحة، وإنما لكل عصر لغته بالطبيعة، ولكل نوع أدبي إطاره الذي تشكل المرأة شعورها ورؤيتها من خلاله. والآن قد تعبر المرأة عن نفسها من خلال الأدب بأشكال عدة، بشكل مباشر أو غير مباشر”.
وتابعت: “أننا حين نكتب عن الأرض والسماء والظواهر الطبيعية، بل والجمادات وأي شيء آخر، فإننا في الحقيقة نكتب أنفسنا، مشاعرنا وأوجاعنا ورؤيتنا، بغير جهر وتصريح، وهذا هو جمال الأدب وخصوصيته”.
وأشارت البلك إلى أنه في السنوات الأخيرة أصبحت الأنثى أكثر جرأة وقوة في رؤية نفسها وفي التعبير عنها، وفي ظنها فإن هناك قضايا أشد حرجًا من العلاقة الخاصة والمشاعر الحميمة ظل الاقتراب منها مخيفًا ويكاد يكون محرمًا، تتعلق بنظرة المرأة إلى أنوثتها، وعلاقتها بالأمومة، سواء كان موضعها مقام الإبنة أو مقام الأم، وغيرها من قضايا خاصة وشائكة استطاعت المرأة أن تتناولها وتكسر تابوهاتها في الفترة الأخيرة، بغير ضجيج، وإنما جاء الأمر عفويًا ومصاحبًا لتطور نظرة المرأة لنفسها وللعالم.
وقالت البلك: “بشكل عام فإن المبالغة في التركيز على هذا الجانب (الأنثوي) في إنتاج المرأة الأدبي، وكأن هذا هو كل عالمها وكل اهتماماتها وغاية ما يمكنها الكتابة عنه، هو منظور سلبي يخصم من إبداعها ومن مصداقية الحالة ككل، ويقيدها وليس العكس، ويجعلها حالة مصطنعة لا حياة ولا روح فيها. وحتى لا يتحول الأمر إلى المباشرة والتصنع والتكلف، ويصير قيدًا على كتابة المرأة، فيحدها ويحددها بدلًا من أن يكون تحريرًا لها من كل قيد”.
وأكدت البلك أنه لا شك أن كل أدب هو ابن عصره، بمتغيراته وأجوائه وأعرافه ومفرداته، فنستطيع أن نجد ملامح زمننا هذا في كتابات الجيل الحالي من الأدباء على كل المستويات وفي كل فروعه، وليس فقط في أدب النساء، ومن الطبيعي أن أبناء هذا الجيل أكثر انفتاحًا وجرأة وتحررًا من القيود.
واختتمت البلك تصريحها بقولها: “في ظني أنه لا وجود لقيود خارجية أو خطوط حمراء مفروضة على الأديب، رجلًا كان أو امرأة، وإنما هو أمر فردي في النهاية، يعود إلى الكاتب نفسه، كيف يرى تلك القيود وكيف يستجيب لها أو يصنعها لنفسه من أوهامه ومخاوفه، يصنعها بوعي أو بغير وعي، فتحكمه وتحدد شكل ومضمون كتابته. وهذا ما ينطبق تمامًا على المرأة الأديبة، فهو مرهون بوعيها بذاتها وأوجاعها، وما تحب أن تصرح أو تهمس به، وكيف، أو أن تحتفظ به بداخلها، بكامل إرادتها، كسِرّ أبدي”.














0 تعليق