العالم على موعد مع مصر، وهى تُهدى الإنسانية فصلًا جديدًا من الإبداع والحضارة.. افتتاح المتحف المصرى الكبير.. يوم عالمى لمصر وللعالم أجمع، حيث تقدم مصر الحديثة للعالم، من خلال هذا الحدث التاريخى، عظمة مصر القديمة فى أبهى صورها.. بل إن هذا الافتتاح يمثل «عيدًا للمتاحف العالمية»، كما يصفه عالم الآثار الكبير، د. زاهى حواس.. فلم يحدث فى تاريخ المتاحف، أن حظى متحف واحد بمثل هذه الشهرة الواسعة، إذ تعود شهرة المتحف المصرى الكبير إلى أمرين أساسيين: الأول، أنه سيضم عرضًا فريدًا لآثار أشهر ملوك الفراعنة، والثانى، أنه أكبر متحف فى العالم مخصص لحضارة واحدة.. لذلك، فـ «نحن فخورون وسعداء، أن يشهد العالم اليوم، أهم افتتاح لأعظم متحف فى التاريخ»، بحضور أكثر من ستين شخصية دولية بارزة، ويحظى بتغطية إعلامية واسعة ستقوم بها مئات القنوات حول العالم، إذ سيبث إلى العالم أجمع عبر نحو خمسمائة محطة دولية، ليبقى هذا اليوم، علامة فارقة فى تاريخ الثقافة والآثار، ليس لمصر وحدها، بل للتاريخ الإنسانى بأسره.
تقول وزيرة الثقافة الروسية أولجا لوبيموفا ـ التى تمثل روسيا فى افتتاح المتحف المصرى الكبير، ومن البلد الذى يمثل سُياحه رقمًا مهمًا فى أعداد السياح إلى مصر ـ إن افتتاح المتحف سيعزز بشكل كبير، مكانة مصر على خريطة السياحة العالمية كواحدة من أكبر وأحدث المراكز الأثرية فى العالم.. يجمع المتحف بين التراث الغنى لمصر القديمة والتقنيات المبتكرة، مما يخلق تناغمًا فريدًا بين الماضى والمستقبل.. ولن يكون المتحف بمثابة مخزن للقطع الأثرية القيمة، بل سيكون أيضًا منصة للحوار بين الثقافات، ومصدر إلهام للباحثين والسياح وهواة التاريخ من جميع أنحاء العالم.. كما أن افتتاحه سيكون بمثابة محرك للتنمية الاقتصادية فى المنطقة؛ وسوف يخلق الآلاف من فرص العمل، من المرممين إلى المرشدين السياحيين والمتخصصين فى الوسائط المتعددة.. علاوة على ذلك، من المتوقع أن يجذب المتحف أعدادًا هائلة من السياح، مما سيزيد بشكل كبير من إيرادات قطاعات السياحة والفنادق والنقل وتجارة التجزئة.. إن إدخال التقنيات الحديثة، مثل الواقع الافتراضى والمُعزز، من شأنه أن يوسع فرص خلق عروض سياحية فريدة من نوعها، وجذب الجماهير التى تبحث عن تجارب جديدة.. وإذا كانت روسيا تتمتع بخبرة واسعة فى تطوير البرامج الثقافية والتعليمية والمتاحف، والطرق السياحية التى تجتذب بنجاح ملايين الزوار، فنحن على استعداد لمشاركة هذه الممارسة، وتنظيم المعارض والمؤتمرات العلمية المشتركة، وتنفيذ المبادرات التعليمية.
فى القاهرة، منتصف يوليو، وقفت ويل جليسون، محررة مجلة «تايم آوت»، تحدق فى عينى تمساح.. لحسن الحظ، هذا التمساح تحديدًا ميت منذ آلاف السنين، وهو محاط بصندوق عرض داخل المتحف المصرى الكبير الجديد كليًا، تنتظر بفارغ الصبر، بعد أكثر من عقد من التأخير، أن يُفتتح المتحف أخيرًا للجمهور.. وبمجرد افتتاحه، سيصبح هذا المكان المذهل أكبر متحف للآثار فى العالم، يتتبع تاريخ الحضارة المصرية القديمة، كما تقول فى تقريرها للمجلة البريطانية.. وتستطرد أن هذه المومياء الزاحفة المحنطة أمامى، هى واحدة من خمسة عشر ألف قطعة أثرية ثقافية رائعة، عُرضت العام الماضى، خلال الافتتاح التجريبى للمتحف المصرى الكبير.. وبمجرد افتتاح المتحف رسميًا اليوم، سيتمكن الزوار من زيارة أهم معالمه: صالات عرض توت عنخ آمون، التى تحتوى على خمسة آلاف قطعة اكتُشفت فى مقبرة الفرعون الشهير عام 1922، بما فى ذلك قناعه الجنائزى الذهبى الشهير.. سيضم جناحًا آخر لم يُفتتح بعد، مركبين شمسيين للملك خوفو، عُثر عليهما بالقرب من الأهرامات.
لقد صممت شركة «هينجهان بينج» للهندسة المعمارية المتحف المصرى الكبير، وكان من المقرر افتتاحه عام ٢٠١٣، إلا أنه تأجل عدة مرات منذ ذلك الحين، لأسباب تتراوح بين الاضطرابات السياسية والصراعات الإقليمية، جائحة كورونا.. مهمته دقيقة وشاملة: توثيق تاريخ مصر العريق، من توحيد مصر السفلى والعليا حوالى عام ٣١٠٠ قبل الميلاد، وحتى إطاحة الرومان بالملكة كليوباترا، حيث تنقسم صالات العرض حسب العصور المميزة للحضارة المصرية: عصر ما قبل الأسرات، والمملكة القديمة، والمملكة الوسطى، والمملكة المتأخرة، ومصر البطلمية، والعصر الرومانى.
●●●
«عندما اقتربتُ لأول مرة من المتحف الواقع على مشارف القاهرة، كان أول ما لفت انتباهى، هو الزخرفة المثلثية المتكررة على واجهته الخارجية» تروى جليسون.. صُممت الواجهة الشمالية للمتحف لترمز إلى جيرانه القدماء، حيث تتكون من حوالى مائتين وخمسين ألف قطعة حجرية مثلثة الشكل، ويوجد مدخل هرمى الشكل، محاط بكتابات هيروغليفية ذهبية لامعة فى المنتصف.. فى الداخل، يهيمن على الردهة المركزية الشاهقة، تمثال رمسيس الثانى الذى يبلغ ارتفاعه ستة وثلاثين قدمًا ويزن ثلاثة وثمانين طنًا.. كان التمثال، الذى يبلغ عمره ثلاثة آلاف ومائتى عام، موجودًا سابقًا بالقرب من محطة القطار فى وسط القاهرة، فى الميدان الذى يحمل اسمه حتى الآن.. فى السقف، فتحة صغيرة تسمح لشعاع من الضوء بالتألق مباشرة على التمثال فى عيد ميلاد رمسيس.. وعلى الجانب الأيمن من الردهة، تصطف مجموعة من المطاعم والمتاجر، تقدم خيارات غداء راقية وهدايا تذكارية عالية الجودة.
إلى جانب ذلك التمثال الشامخ، تتميز المساحة المركزية للمتحف بدرج واسع، ينقل الزوار إلى بداية قاعات العرض، المزدانة بتماثيل أثرية مضاءة بشكل درامى، تُقدم لمحة عما سيأتى.. من الصعب ألا يُدهشك ضخامة التاريخ الذى يضمه هذا المبنى، فالمتحف بحجم ثلاثة وتسعين ملعب كرة قدم، ويعرض، عند افتتاحه بالكامل، أكثر من مائة ألف قطعة أثرية.. بينما تُركز المعارض الأولى التى تصادفها، على ماضى مصر العريق، إذ تُقدم المساحة المفتوحة، لمحة عن العديد من القرون التى ستسافر عبرها قريبًا.
«إنه ليس متحفًا، بل مركز ثقافى.. أنت لا ترى التاريخ، بل تعيشه، وتختبره.. هذه هى الفكرة.. عندما نبنى متاحف جديدة، نعتمد على مفهوم الواقع الافتراضى والواقع المُعزز.. الأجهزة الإلكترونية فى كل مكان»، يقول أحمد يوسف، الرئيس التنفيذى للهيئة المصرية العامة للسياحة.. تزخر صالات المتحف بالعديد من القطع الإلكترونية، التى تُكمّل ببراعة القطع الأثرية القديمة فيه بدلًا من أن تُشتت الانتباه عنها.. يُجسّد المعرض المجتمع المصرى القديم ومعتقداته الدينية، من خلال تركيبات فيديو ومشاهد صوتية متطورة، بينما تستكشف الرسوم المتحركة الغامرة مفاهيم أوسع، مثل بناء الأهرامات وصناعة ورق البردى.. وفى أماكن أخرى، تُقدّم الجرار الكانوبية والقوارب المصغّرة والتماثيل الذهبية والتوابيت، لمحاتٍ ملموسة عن ماضى البلاد العريق.. تُقدّم أقسام كبيرة مُخصّصة لأحداثٍ تاريخية شهيرة، مثل عهد الملكة حتشبسوت وثورة إخناتون الدينية، استكشافات أكثر تفصيلًا، بينما تُسلّط القطع القديمة اليومية الضوء على حياة المصريين العاديين.
لا شك لدىّ، وأنا أتجول بين صالات العرض- والكلام مازال لجليسون- أن زيارة المتحف المصرى الكبير تستحق عناء الانتظار.. فقرب المتحف من الأهرامات يُسهّل وصول الزوار إليه، بالطبع، كما يجعله امتدادًا طبيعيًا لأى رحلة حج إلى هذه العجائب القديمة.. كما يُعزز هذا من المعروضات الثقافية المتميزة أصلًا فى القاهرة.. فقد سلّم المتحف المصرى فى ميدان التحرير بعضًا من مقتنياته إلى المتحف المصرى الكبير، وتحديدًا كنوز توت عنخ آمون، ولكنه لايزال يضمّ مخزونه الهائل من الآثار الفرعونية؛ بينما يُقدّم متحف الحضارة المصرية، تجربة لا تُنسى لرؤية مومياوات الفراعنة القدماء.. ولكن، لا يوجد مَعلَّم جذب آخر يُقدّم نظرة شاملة كهذه على التاريخ الكامل لإحدى أشهر حضارات العالم.. قد تحتاج إلى زيارته بضع مرات، فقط لتستوعب كل شىء.. كل شىء.
●●●
من مفاجآت افتتاح المتحف المصرى الكبير، أنه ولأول مرة منذ اكتشافهما عام 1954، يتم عرض قاربى الملك خوفو، أقدم وأكبر قاربين خشبيين تم اكتشافهما على الإطلاق، تحت سقف واحد، فى متحف قاربى خوفو بالمتحف الكبير، مما يوفر للزائرين لقاءً حيًا مع مصر القديمة.. إذ يضم متحف قوارب خوفو معرضًا مصممًا خصيصًا، ويُعد من أبرز التجارب الرائدة فى المتحف الكبير.. يعرض المتحف قوارب جنائزية تعود لملك المملكة القديمة، خوفو، عمرها أربعة آلاف وخمسمائة عام، بُنيت لحمله فى رحلته الأبدية مع إله الشمس رع.. يُعرض القارب الأول، الذى رُمم بالكامل بعد نقله من هضبة الجيزة، بتفاصيل دقيقة.. أما القارب الثانى، الذى رُمم ونُقل إلى المتحف المصرى الكبير خلال السنوات القليلة الماضية، فسيتم إعادة تجميعه لوحًا تلو الآخر أمام أعين الجمهور، مما يتيح للزوار مشاهدة عملية ترميم أثرية حية لأول مرة.
يوضح عيسى زيدان، مدير الترميم ونقل الآثار بالمتحف المصرى الكبير، أن قصة متحف مركب خوفو تبدأ فى المنطقة المفتوحة خارج المبنى الرئيسى للمتحف، بمناظر طبيعية أعيد تصورها لنهر النيل مع تمثال للآلهة، ونسخة طبق الأصل من حفرة المركب الأصلية، مما يمهد الطريق لقصة تمزج بين الأساطير والهندسة والعلوم الحديثة.. يُهيئ هذا العرض الخارجى الزوار للقصة القادمة، من خلال محاكاة تُوضح جريان النيل وعلاقته الرمزية بالقوارب الجنائزية فى المعتقدات المصرية القديمة.. فى الوسط، يقف تمثال لإله النيل حابى، مُقامًا بجانب مجرى مائى يُمثل النهر، مُحاطًا بعشرة تماثيل للإلهة سخمت كحامية.. وتتميز هذه المنطقة أيضًا، بنسخة طبق الأصل بالحجم الطبيعى لإحدى حفر القوارب الأصلية، تتميز بدقة أبعادها وتصميمها.. إلى جانبها، توجد ثمانية عشرة كتلة حجرية أصلية من الحجر الجيرى، كانت تُغلق الحفر سابقًا، محفورة عليها نقوش أصلية، ورسومات جرافيتى من أعمال البنائين القدماء، وقياسات حجرية، وخراطيش الملكين خوفو وجدف رع، مما يُتيح للزوار فهمًا واقعيًا لموقع الاكتشاف.
داخل المتحف، يتكشف المعرض كرحلة عبر الزمن.. يتعرف الزوار أولًا على الأهمية الروحية والملموسة لنهر النيل فى الحياة والديانة المصرية القديمة.. ثم يتتبع المعرض تاريخ هضبة الجيزة ودور مراكب خوفو، ليس كممتلكات ملكية فحسب، بل كأوعية مقدسة لنقل الملك عبر السماوات كل ليلة إلى الحياة الآخرة.. تعرض شاشات تفاعلية، تفاصيل الاكتشاف الدرامى لأول قارب بجوار الهرم الأكبر خوفو، حيث تم دفنه سليمًا فى حفرة من الحجر الجيرى ومختومًا منذ العصور القديمة.. يبلغ طوله أكثر من اثنين وأربعين مترًا، وهو أكبر وأقدم قطعة أثرية خشبية باقية فى العالم.. وفى الجوار، تكشف المختبرات ذات الجدران الزجاجية، عن مشهد استثنائى آخر: عملية الترميم المباشر لمركب خوفو الثانى.. أكثر من ألف وستمائة قطعة خشبية ومعدنية هشة، مُستخرجة من حفرة ثانية، تخضع بعناية فائقة للترميم وإعادة التجميع من قِبل خبراء مصريين ويابانيين، بينما يشاهدها الزوار من منصة المشاهدة، مما يجعل عملية الحفظ عرضًا أثريًا عامًا.. وتستمر القصة مع التنقيب عن القارب الثانى وحفظه، كما تقدم أيضًا رؤى تفصيلية عن الملك خوفو، بانى الهرم الأكبر، والمهندسين وراء بنائه، والعمال الذين ساعدوا فى بناء هذا المجمع الجنائزى الضخم..
ظل مركب خوفو الثانى دون مساس لعقود من الزمن بعد اكتشافه عام 1954، إلى جانب المركب الأول الذى اكتشفه عالم الآثار المصرى والمهندس المعمارى، كمال الملاخ، وزميله، زكى نور، أثناء أعمال الحفر الروتينية فى الجانب الجنوبى من الهرم الأكبر.. وبينما تم حفر القارب الأول وإعادة تجميعه، ظل القارب الثانى مُغلقًا فى حفرته الجيرية للحفاظ على هيكله الخشبى الهش.. ولم تُجرِ الجمعية الجغرافية الوطنية الأمريكية، بالتنسيق مع مكتب الآثار المصرية، أول فحص علمى للحفرة المُغلقة إلا فى عام ١٩٨٧.. حُفر ثقب صغير فى سقف الحفرة، وأُنزِلت كاميرا مُصغّرة داخلها لتقييم حالة القارب.. أُعيد سدُّ الحفرة بعد ذلك بوقت قصير، إلا أن الثقب سمح بدخول الهواء والحشرات، مما أدى إلى تدهور بعض العوارض الخشبية القديمة.. وإدراكًا منها لضرورة الحفاظ على القارب، تدخّلت اليابان لدعم مهمة الإنقاذ.. قدّمت الحكومة اليابانية، من خلال جامعة واسيدا، منحة قدرها عشرة ملايين دولار أمريكى، لتمويل استخراج القارب وترميمه وإعادة تجميعه.
وبالفعل، بدأ فريق مصريًا ـ يابانيًا مشتركًا العمل بعد ذلك بوقت قصير، حيث قام بإزالة 1698 قطعة خشبية بعناية من ثلاث عشرة طبقة مكدسة داخل الحفرة، وتم تطبيق معالجات الحفظ الأولية فى الموقع، قبل نقل القطع إلى معامل الترميم بالمتحف المصرى الكبير، حيث اكتملت عملية الحفظ الطويلة والدقيقة، وستستمر عملية إعادة البناء، للمركب الذى بدأ مشروع استعادته عام ٢٠٠٨، عندما أجرى الفريق مسوحات رادارية وطوبوغرافية حول حفرة القارب الثانية.. ولحماية الآثار الهشة، بُنيت حظيرة كبيرة مُكيّفة فوق الموقع، مع هيكل داخلى أصغر فوق القارب نفسه مباشرةً.. واستُخدم المسح الضوئى بالليزر لتوثيق الموقع، بما فى ذلك الجدار الفاصل بين الهرم الأكبر وحفرة الدفن.. وتمت إزالة إحدى وأربعين كتلة من الحجر الجيرى، كانت تسد الحفرة لمدة أربعة آلاف ةخمسمائة عام، بعناية.. وتحتها، اكتشف الفريق 1698 قطعة خشبية من القارب الثانى، مرتبة فى ثلاثة عشرة طبقة.. وُثِّقت كل قطعة، وحُفظت، وعُولجت فى الموقع قبل نقلها إلى مختبرات الترميم فى المتحف المصرى الكبير.
ويُعدّ قاربا خوفو، أكبر سفينتين ملكيتين قديمتين عُثر عليهما على الإطلاق، ومن أقدم السفن الخشبية الباقية فى العالم.. بُنيا للملك خوفو، أحد حكام الأسرة الرابعة فى مصر وبانى الهرم الأكبر.. اكتُشف القارب الأول فى حفرة مغطاة بالحجر الجيرى بجوار الهرم، ووُجد مفككًا ولكنه مُرتَّب بعناية، إلى جانب حبال وحصائر وأدوات من الصوان ومجاديف وأعمدة وعناصر هيكلية.. وقد أُعيد تجميعه على مدى أكثر من عقدين من قِبل خبير الترميم، أحمد يوسف، الذى درس نقوش المقابر القديمة وتقنيات بناء القوارب الحديثة لحل لغز الخشب المُعقَّد، وتم عرضه فى البداية، فى متحف مخصص بجوار الهرم، ثم تم نقله إلى موطنه الدائم فى المتحف المصرى الكبير عام 2021، باستخدام مركبة مُصممة خصيصًا تعمل بالتحكم عن بُعد، جُلبت من بلجيكا.. وقد خضعت المركبة لتجارب أولية لضمان نقلها بأمان، وقد أثبتت نجاحها الباهر.. ولإجراء عملية النقل، غُلّفت السفينة بعناية برغوة علمية واقية، وحُفظت داخل إطار حديدى مُصمم خصيصًا لحمايتها من الاهتزاز أو التلف.. هذه قصة اكتشاف قوارب خوفو، التى أثارت جدلًا علميًا.. يعتقد العديد من علماء المصريات، أنها كانت مراكب شمسية مُعدّة لحمل الملك المُبعث عبر السماء مع إله الشمس رع.. ويشير آخرون إلى أنها ربما استُخدمت خلال حياة خوفو فى رحلات الحج الدينية، مشيرين إلى علامات الحبال والتآكل التى تشير إلى أنها كانت تُبحر فى السابق على الماء.
●●●
أما المتحف المصرى الكبير، من الفكرة إلى الافتتاح، فإنها قصة جديرة بأن تُروى، عن أكبر متحف عالمى للآثار المصرية القديمة، تبلغ مساحته خمسمائة ألف متر مربع، ويضم اثنتى عشرة صالة عرض تغطى فترات تاريخية مختلفة، من عصور ما قبل التاريخ، وحتى نهاية العصر الرومانى، وتزيد مساحة كل قاعة منها عن مساحة العديد من المتاحف الحالية فى مصر والعالم، بحسب وزارة السياحة والآثار المصرية.. وقد حصل على شهادة Edge Advance للمبانى الخضراء، من مؤسسة التمويل الدولى، إحدى مؤسسات مجموعة البنك الدولى، كأول متحف أخضر فى إفريقيا والشرق الأوسط، إذ تزيّنه الحدائق من الاتجاهات كافة، على مساحة مائة وعشرين ألف متر.. وجاءت هذه الشهادة بعد تنفيذ مجموعة من المعايير المتعلقة بترشيد الطاقة، واستخدام الطاقة النظيفة فى أعمال البناء، وتركيب الخلايا الشمسية، وأنظمة الإضاءة والتهوية الطبيعية.
ظهرت فكرة إنشاء المتحف المصرى الكبير، الذى يطل على أهرامات الجيزة، خلال التسعينيات، بفكرة طرحها وزير الثقافة ـ وقتئذ ـ الفنان فاروق حسنى، ليكون أكبر متحف بالعالم يضم آثار الحضارة المصرية القديمة.. وقد بدأ مشروع إنشائه عام 2002، وتوقف مؤقتًا بعد أحداث يناير 2011، قبل استئناف العمل فيه عام 2014.. وظلت الفكرة تتطور، حتى أصبح المتحف واقعًا فى العام الحالى، 2025.. فما هى قصته؟.
أُنشئ المتحف المصرى الكبير ليكون صرحًا حضاريًا وثقافيًا وترفيهيًا عالميًا متكاملًا، وليكون الوِجهة الأولى لكل من يهتم بالتراث المصرى القديم، كأكبر متحف فى العالم يروى قصة تاريخ الحضارة المصرية القديمة، إذ يحتوى على عدد كبير من القطع الأثرية المميزة والفريدة، من بينها كنوز الملك الذهبى توت عنخ آمون، والتى تُعرض لأول مرة كاملة منذ اكتشاف مقبرته فى نوفمبر 1922، بالإضافة إلى مجموعة الملكة حتب حرس أم الملك خوفو الذى بنى الهرم الأكبر بالجيزة، وكذلك متحف مراكب الملك خوفو، فضلًا عن المقتنيات الأثرية المختلفة، منذ عصر ما قبل الأسرات وحتى العصرين اليونانى والرومانى، كما قلنا.
كانت أول خطوة فى مشروع المتحف المصرى الكبير فى فبراير 2002، حين وضع الرئيس المصرى الراحل، حسنى مبارك، حجر الأساس بالقرب من أهرامات الجيزة بعد إجراء الدراسات الأولية.. وأطلقت مصر، فى العام ذاته، مسابقة معمارية دولية لاختيار أفضل تصميم للمتحف، تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» والاتحاد الدولى للمهندسين المعماريين.. وفى يونيو 2003، فاز التصميم الحالى المُقدم من شركة «هينجهان بينج» للمهندسين المعماريين فى أيرلندا، والذى اعتمد فى التصميم على أن تمثل أشعة الشمس الممتدة من قمم الأهرامات الثلاثة عند التقائها، كتلة مخروطية هى المتحف المصرى الكبير، كما يبدو المتحف نفسه من منظور رأسى على شكل هرم رابع.
بدأت بعد ذلك عمليات تمهيد الأرض، وإزالة العوائق الطبيعية أو المنشآت المقامة فى الموقع، واستمرت نحو ثلاث سنوات، حتى تدشين عمليات الإنشاء فى مايو 2005، بقرض تنموى من هيئة التعاون الدولى اليابانية «جايكا».. وفى عام 2006، بدأ إنشاء مركز ترميم الآثار؛ بهدف ترميم، وصيانة القطع الأثرية المقرر عرضها داخل المتحف وإعادة تأهيلها، الذى تم افتتاحه فى يونيو 2010، مع محطتى الطاقة الكهربائية، وإطفاء الحريق، فى المتحف المصرى الكبير، بعد الانتهاء من المرحلتين الأولى والثانية من المشروع.. لكن توقف العمل فى المتحف نحو ثلاث سنوات بعد أحداث يناير 2011، قبل أن يعيد الرئيس عبدالفتاح السيسى، العمل بالمشروع فى 2014.
وفى يناير 2018، جرى نقل تمثال الملك رمسيس الثانى من موقعه فى الميدان الذى يحمل اسمه أمام محطة سكك حديد مصر، إلى موقع المتحف ليكون أول قطعة أثرية تستقر داخله.. واكتملت أعمال تشييد المتحف فى 2021 على خمسمائة ألف متر مربع، تشمل بهو المدخل، والدرج العظيم، وقاعات الملك توت عنخ آمون، ومتحف الطفل، والمبانى الأمامية الخدمية، وأنظمة التذاكر، والتأمين والمراقبة، ومناطق انتظار السيارات.. وفى إبريل 2021، جرى توقيع عقد تقديم وتشغيل خدمات الزائرين بالمتحف، مع تحالف تقوده شركة حسن علام، ويضم شركات مصرية ودولية ذات خبرات متنوعة، فى مجالات إدارة الأعمال والتسويق والضيافة والترويج والجودة والصحة والسلامة المهنية.. وبدأ التشغيل التجريبى للمتحف، الذى صُمم لاستيعاب أكثر من مائة ألف قطعة أثرية، فى السادس عشر من أكتوبر 2024.
وفى 25 فبراير 2025، قررت الحكومة إقامة حفل افتتاح رسمى للمتحف فى الثالث من يوليو الماضى، بحضور قادة وزعماء العالم، لكن اندلاع الحرب بين إسرائيل وإيران أدى إلى توتر سياسى إقليمى، مما دفع السلطات المصرية إلى تأجيل افتتاح المتحف المصرى الكبير إلى أول نوفمبر 2025.. وقد شهد المتحف المصرى الكبير عددًا من الجولات الإرشادية فى منطقة الخدمات، وهى الحدائق والمنطقة التجارية، التى تضم عددًا من المطاعم والكافيتريات والمحال، التى تشمل علامات تجارية مصرية رائدة، ومتجر الهدايا، بالإضافة إلى المناطق المفتوحة للزيارة بالمتحف، والتى تشمل منطقة المسلة المعلقة، وصالة الاستقبال الرئيسة المعروفة باسم البهو العظيم، والبهو الزجاجى.
ويتمكن الزائرون أثناء جولاتهم فى البهو العظيم، من مشاهدة ما يحتويه من قطع أثرية، منها تمثال الملك رمسيس الثانى وعمود النصر للملك مرنبتاح، بالإضافة إلى تمثالين لملك وملكة من العصر البطلمى، فيما سيتمكن الزائرون بعد الافتتاح الرسمى من دخول قاعات العرض المتحفى القاعات الرئيسية، وقاعتى توت عنخ آمون، والدرج العظيم، وقاعة العرض التفاعلى، ومتحف مراكب خوفو، وأقسام ومناطق المتحف الداخلية الأخرى.. ويأمل المسئولون أن يشكّل افتتاح المتحف دفعة قوية لقطاع السياحة، الذى واجه خلال السنوات الماضية تحديات عدة، من تداعيات جائحة كورونا، فضلًا عن التوتر الإقليمى الذى ألقى بظلاله على حركة السفر.. ويتوقعون أن يرفع المتحف وحده عدد السياح بما يصل إلى سبعة ملايين سنويًا بعد افتتاحه، وهو ما يرفع بدوره إجمالى عدد الزائرين إلى نحو ثلاثين مليونًا بحلول 2030.
ونأمل بدورنا، أن تشهد مصر، التى يقصدها الكثير من السائحين لزيارة منتجعاتها على البحر الأحمر، مساهمة من افتتاح المتحف فى زيادة حجم شريحة الزوار لأغراض السياحة الثقافية.. يقول محللون إن السائحين من هذا النوع، عادة ما يقضون فترات أطول وينفقون أموالًا أكثر، من أولئك الذين يأتون فى الأساس للاستمتاع بالشواطئ.. ومع أن الأرقام الرسمية لا تتضمن تفصيلًا لعدد السائحين الذين يأتون لأغراض ثقافية، لكن تقديرات خلصت إليها دراسة أجريت فى 2021، بشأن التأثير المحتمل للمتحف المصرى الكبير، أشارت إلى أنهم يشكلون أقل من ربع إجمالى السائحين.
●●●
■■ بقى أن نقول..
إنه على عكس طرق العرض، التى كانت تتراص فيها القطع الأثرية فى مساحات صغيرة، وبطريقة تقليدية فى المتحف المصرى بميدان التحرير وسط القاهرة، يتميز المتحف الكبير بأساليب عرض تفاعلية وأجهزة واقع افتراضى، ويعرض مجموعة ضخمة كانت فى السابق حبيسة المخازن؛ بسبب نقص مساحة العرض.. وإذا كان تحقيق أقصى استفادة من افتتاح المتحف «يتطلب إكماله ببنية تحتية سياحية عالية الجودة، من فنادق ونقل وغير ذلك»، ويعنى هذا حل مشكلات، مثل النقل فى مدينة القاهرة التى يقدر عدد سكانها بنحو ثلاثة وعشرين مليون نسمة، فإنه جرى بالفعل إعادة تأهيل وتجميل الطرق المؤدية إلى المتحف الجديد، وبناء مطار سفنكس على بعد نحو خمسة وعشرين كيلو مترًا من المتحف، لتفادى الشوارع المزدحمة، كما نقلت السلطات المدخل إلى أهرامات الجيزة إلى الجانب الخلفى لتقليل الازدحام.. وقال وزير السياحة، الشهر الماضى، إن مصر أضافت خمسة آلاف غرفة فندقية إلى مائتين وخمسة وثلاثين ألفًا موجودة بالفعل، وتأمل فى إضافة تسعة آلاف غرفة أخرى قبل نهاية العام.. مبروك لمصر وشعبها العظيم، افتتاح المتحف المصرى الكبير.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.











0 تعليق