في منتصف القرن العشرين، ومع تصاعد التحديات السياسية والاقتصادية التي واجهت العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية، برز اسم محمد عبد الخالق حسونة كأحد أبرز الدبلوماسيين الذين تركوا بصمة قوية في مسيرة جامعة الدول العربية، فقد تولى منصب الأمين العام الثاني للجامعة عام 1952، ليخلف الأمين العام الأول عبد الرحمن عزام، ويقود المؤسسة العربية الأهم في مرحلة دقيقة من تاريخ الأمة.
بداية المسيرة والتمهيد للمسؤولية الكبرى
ولد محمد عبد الخالق حسونة في عام 1898 بمدينة القاهرة، وتلقى تعليمه في المدرسة السعيدية ثم التحق بجامعة أكسفورد البريطانية حيث درس الاقتصاد والعلوم السياسية، مما أكسبه رؤية واسعة وخبرة فكرية أهلتاه للعمل في السلك الدبلوماسي المصري.
بدأ مشواره في وزارة الخارجية المصرية، وتدرج في المناصب حتى أصبح وزيرًا للخارجية في عهد الملك فاروق، ثم عين محافظًا للبنك الأهلي المصري، فجمع بين الخبرة السياسية والاقتصادية، وهي الصفات التي جعلته الخيار الأمثل لتولي منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية.
قيادة الجامعة في مرحلة مضطربة
في عام 1952، تسلم حسونة مهامه كأمين عام للجامعة في وقت كانت فيه المنطقة العربية على صفيح ساخن، فقد كانت القضية الفلسطينية في أوجها، وحركات التحرر العربي تتصاعد في مواجهة الاستعمار الأوروبي، جاء حسونة ليقود العمل العربي المشترك نحو الوحدة والتنسيق السياسي، مؤمنًا بأن التضامن العربي هو السبيل الوحيد لمواجهة التحديات.
عمل على تطوير آليات التعاون بين الدول الأعضاء، ودعم استقلال الدول العربية الجديدة التي كانت تخوض نضالها ضد الاحتلال، مثل الجزائر وتونس والمغرب، كما ساهم في توسيع عضوية الجامعة لتشمل عددًا أكبر من الدول العربية المستقلة حديثًا، ما عزز من حضور الجامعة على الساحة الدولية.
مواقف حاسمة في القضايا العربية
برزت حكمة حسونة الدبلوماسية خلال أزمة العدوان الثلاثي عام 1956، عندما هاجمت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل مصر بعد تأميم قناة السويس، وقف حينها موقفًا وطنيًا وعربيًا صلبًا إلى جانب القاهرة، وسعى عبر الجامعة لحشد الدعم العربي والدولي لمواجهة العدوان.
كما شارك في دعم الجهود التي أدت إلى إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، مؤمنًا بضرورة أن يكون للشعب الفلسطيني كيان سياسي يمثل قضيته في المحافل الدولية.
رؤية إصلاحية وميراث دبلوماسي
لم تكن مهمة حسونة سهلة، إذ واجه خلافات سياسية بين بعض الدول الأعضاء، لكنه نجح في الحفاظ على توازن الجامعة وتأكيد دورها كمنبر للحوار العربي، عمل على تحديث أنظمتها الإدارية، ورفع كفاءة العمل الدبلوماسي العربي المشترك.
استمر في منصبه حتى عام 1972، ليكون بذلك أطول من تولى الأمانة العامة في تاريخ الجامعة، إذ خدم عشرين عامًا متواصلة شهدت خلالها المنطقة حروبًا وتحولات كبرى.
إرث خالد في الدبلوماسية العربية
بعد تقاعده، ظل محمد عبد الخالق حسونة يذكر كرمز للاتزان والاعتدال، ودبلوماسي آمن دومًا بفكرة “العروبة الجامعة” وقد رحل عن عالمنا عام 1992، تاركًا إرثًا من الحكمة السياسية والرؤية القومية التي أسهمت في ترسيخ مكانة جامعة الدول العربية كصوت موحد للأمة.
لقد أثبت حسونة أن القيادة الهادئة والعقلانية يمكن أن تكون أكثر تأثيرًا من الخطابات الصاخبة، وأن العمل الدبلوماسي المنظم قادر على صون وحدة العرب رغم اختلاف توجهاتهم، لذلك يبقى اسمه محفورًا في الذاكرة العربية كواحد من أبرز أمناء جامعة الدول العربية وأكثرهم تأثيرًا في مسيرتها التاريخية.


















0 تعليق