عضو بمنظمة الإغاثة لـ الدستور: "الفاشر تنزف بصمت.. والناجون يعيشون حربًا ثانية داخلهم"(حوار)

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في الوقت الذي تتسارع فيه تطورات الحرب في السودان، تبرز الفاشر كواحدة من أكثر المدن معاناة في إقليم دارفور. فالمعارك العنيفة، والحصار الطويل، وموجات النزوح المتلاحقة، جعلت من المدينة بؤرة إنسانية مأساوية، وفي ظل هذا الواقع، يبرز دور العاملين في المجال الإنساني والنفسي الذين يحاولون تخفيف جراح الناس رغم ندرة الإمكانات.


في هذا الحوار الخاص مع «الدستور»، يتحدث الناشط الاجتماعي مجاهد بابكر، أخصائي الصحة النفسية المتعاون مع منظمات الإغاثة الدولية العاملة في السودان، عن معاناة المدنيين في الفاشر وما حولها، وعن الحالة النفسية المروعة التي يعيشها الناجون من المدينة بعد شهور من الحصار والدمار والنزوح.

الاخصائي النفسي مجاهد بابكر

 

بدايةً، كيف تصف لنا الوضع الإنساني والمعيشي في مدينة الفاشر الآن؟

ما يحدث في الفاشر اليوم فاق كل التصورات. المدينة تحولت إلى أنقاض، وأحياء كاملة دُمِّرت أو أُفرغت من سكانها. لا توجد كهرباء ولا مياه صالحة للشرب، والمستشفيات أُغلقت أو نُهبت، معظم من تبقى من السكان يعيشون على ما تبقى من مخزون بسيط من الطعام أو يعتمدون على مياه الآبار الملوثة، الوضع مأساوي بكل المقاييس، وأستطيع القول إن الحياة هناك بالكاد مستمرة.

 

كيف أثر الحصار المستمر على حياة الناس داخل المدينة؟

الحصار جعل الحياة مستحيلة تقريبًا. لم يعد هناك إمداد غذائي أو طبي، ومعظم الطرق المؤدية إلى المدينة مغلقة بالكامل. رأيت بعيني أسرًا تأكل وجبة واحدة في اليوم، وأطفالًا يقتاتون على الحبوب الجافة أو أوراق الشجر، الناس تعبوا من الخوف والجوع والعطش، لكن الأكثر قسوة هو الإحساس بالعزلة — بأن العالم كله صامت بينما هم يموتون ببطء.

 

أنت تعمل بشكل مباشر مع النازحين القادمين من الفاشر إلى طويلة، كيف تصف حالتهم النفسية؟

هؤلاء الناس خرجوا من الجحيم. كثيرون منهم مشوا لأيام تحت القصف أو بين الجثث. هناك أطفال لم يتوقفوا عن البكاء منذ أسابيع، ونساء أصبن بانهيارات عصبية، ورجال فقدوا الثقة في كل شيء، البعض لا يستطيع النوم، وآخرون يعانون من نوبات فزع متكررة عند سماع أي صوت مرتفع. الحرب تركت فيهم ندوبًا لا تُرى لكنها أعمق من الجراح الجسدية.

 

هل هناك أرقام أو تقديرات لعدد النازحين الذين وصلوا إلى منطقة طويلة؟

نعم، حسب آخر إحصاءات المنسقية، وصل أكثر من (831) أسرة، أي نحو ثلاثة آلاف شخص، خلال الأيام الأخيرة فقط. والأعداد تتزايد يوميًا، طويلة الآن أشبه بمدينة صغيرة من الخيام، الناس يعيشون في ظروف قاسية للغاية؛ لا طعام كافٍ، ولا مياه، ولا خدمات صحية تذكر، ومعظم المساعدات تأتي متأخرة أو بكميات لا تكفي لسد الرمق.

 

بصفتك أخصائي صحة نفسية، ما أبرز الصدمات التي تواجهونها عند التعامل مع الناجين؟

أكثر ما يؤلمني هو الخوف المزمن الذي استقر في نفوسهم. كثيرون فقدوا القدرة على الثقة، لا في الآخرين ولا في المستقبل. أرى أطفالًا يخافون من الضوء لأنهم ربطوه بالقصف الليلي، ونساءً يرفضن الأكل لأن الطعام أصبح مرتبطًا بذكرى الموت أثناء الحصار، الصدمات متشابكة، تمتد من الخوف إلى الشعور بالذنب، ومن فقدان الأحبة إلى العجز عن الحلم.

 

هل تتلقى منظمات الإغاثة الدولية تسهيلات في الوصول أو الدعم الكافي لمواجهة هذه الكارثة؟

للأسف، لا.. هناك تضييق كبير على العمل الإنساني، وبعض المناطق مغلقة بالكامل. المنظمات تعمل في حدود ضيقة جدًا، وتعتمد أحيانًا على طرق غير رسمية لإيصال المساعدات، الكادر النفسي والطبي محدود، والاحتياجات ضخمة، نعمل ساعات طويلة في ظروف غير إنسانية، ومع ذلك نحاول فقط أن نُبقي الناس على قيد الأمل.

 

من خلال تجربتك الميدانية، ما أكثر قصة إنسانية أثّرت فيك مؤخرًا؟

لن أنسى سيدة فقدت زوجها وثلاثة من أطفالها أثناء هروبها من الفاشر، نجت مع طفلتها الصغيرة التي لم تتكلم منذ شهرين. عندما جلستُ معها للعلاج النفسي، لم تقل سوى جملة واحدة: “ما عدت أميز بين الحلم والكابوس”، هذه الجملة تختصر كل ما يعيشه أهل الفاشر اليوم.

 

برأيك، ما أثر هذه الحرب الطويلة على الجيل الجديد في دارفور؟

نحن أمام جيل ينشأ في بيئة مشبعة بالخوف والعنف وفقدان الأمان. الأطفال في معسكرات النزوح لا يعرفون معنى المدرسة أو اللعب، بل يعرفون فقط صوت الطائرات وصورة الموت، إن لم تتدخل الدولة والمجتمع الدولي بخطط لإعادة التأهيل النفسي والتربوي، فسيحمل هذا الجيل جراحًا نفسية ستؤثر على مستقبل السودان كله.

 

هناك من يرى أن المفاوضات الجارية في واشنطن قد تفتح بابًا للأمل، كيف تنظر إلى ذلك؟

لا مانع من أي حوار يسعى للسلام، لكن التجربة علمتنا أن السلام لا يُفرض من الخارج. الحل الحقيقي يبدأ من الداخل، من وجع الناس أنفسهم، من الاعتراف بما حدث في دارفور والفاشر والخرطوم، المفاوضات لا تعني شيئًا إن لم تلامس معاناة هؤلاء الذين فقدوا كل شيء، السلام ليس ورقة توقع، بل شفاء جرح الوطن.

 

ما رسالتك للمجتمع الدولي والفاعلين في الملف السوداني اليوم؟

 أقولها بوضوح: من لم يرَ الفاشر اليوم، لم يرَ معنى المأساة، آن الأوان لوقف الحرب وفتح ممرات آمنة للمساعدات. آن الأوان لأن يسمع العالم أصوات الأمهات الثكالى والأطفال الجياع، إذا كان المجتمع الدولي صادقًا في دعوته للسلام، فليبدأ بإنقاذ من تبقّى من الموت البطيء.

 

وأخيرًا، ما الذي يمنحك الأمل رغم كل هذا الظلام؟

الناس أنفسهم.. رغم الجوع والخوف، لا يزالون يتشاركون لقمة الطعام، يساعدون بعضهم البعض، ويبتسمون في وجه الحياة. رأيت أطفالًا يرسمون على الرمال علم السودان، ونساءً يهمسن بالدعاء كل صباح، هذه البذرة من الإنسانية هي ما يجعلني أؤمن أن السودان سينهض من جديد، مهما طال الليل.

 

أقرأ أيضًا:

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق