يشكّل افتتاح المتحف المصرى الكبير علامة فارقة فى مسيرة الثقافة الإنسانية، وحدثًا عالميًّا طال انتظاره يضع مصر فى طليعة الدول التى أعادت صياغة علاقتها بالتراث، من خلال مشروع حضارى فريد يدمج بين عبق الماضى وأدوات المستقبل. فهذا الصرح العملاق لا يُعَدّ مجرد متحف للعرض، بل مؤسسة حضارية متكاملة تجسّد الرؤية المصرية الجديدة للثقافة والمعرفة فى القرن الحادى والعشرين.
يقع المتحف على هضبة الجيزة فى مواجهة أهرامات مصر الخالدة، فى اختيار مكانى مقصود يعكس فلسفة عميقة تقوم على الحوار بين القديم والحديث، بين الحجر الصامت والتكنولوجيا الناطقة. وقد صُمم المبنى وفق معايير معمارية دقيقة تجعل من واجهته الضخمة امتدادًا بصريًا للطبيعة المحيطة، بينما تُطل مساحاته الداخلية على مشهدٍ بانورامى للأهرامات، فى توليفة تُعبّر ببلاغة عن عبقرية المكان المصرى.
يمتد المتحف على مساحة تتجاوز نصف مليون متر مربع، ويضم أكثر من مائة ألف قطعة أثرية تمثل شتى عصور الحضارة المصرية، من ما قبل التاريخ حتى العصرين اليونانى والرومانى. وتحتل مجموعة توت عنخ آمون موقع القلب النابض للمتحف، حيث تُعرض لأول مرة كاملة فى قاعات مصممة بمعايير بيئية وتقنية دقيقة تُحافظ على القطع الأثرية وتُبرز جمالها الفنى.
ويتميّز المتحف بتوظيف أحدث تقنيات العرض المتحفى الذكى، التى تمزج بين الواقع الافتراضى والذكاء الاصطناعى والعرض التفاعلى، بما يمنح الزائر تجربة حسية ومعرفية متكاملة، تسمح له بفهم السياق التاريخى والإنسانى لكل قطعة. كما يضم المتحف أكبر مركز ترميم فى الشرق الأوسط، يُعَدّ بمثابة مختبر علمى متكامل لحفظ وصيانة الآثار باستخدام أحدث الأجهزة والتقنيات.
ولا يقتصر دور المتحف على العرض أو الترميم، بل يتجاوز ذلك إلى كونه مركزًا عالميًا للبحث والتعليم والتبادل الثقافى، بما يجعله محورًا أساسيًا فى دعم الدراسات الأثرية وتطوير الكوادر المتخصصة فى علم المتاحف والترميم. وهو ما يرسّخ مكانة مصر كمركز إقليمى وعالمى فى مجالات التراث والعلوم الإنسانية.
إن المتحف المصرى الكبير ليس بناءً من حجر، بل فكرة حضارية تتجسد، تعبّر عن إيمان الدولة المصرية بأن التراث ليس ماضيًا يُروى، بل قوة حاضرة تُبنى عليها الأوطان. فبافتتاح هذا المتحف، تُعلن مصر للعالم أنها لا تكتفى بصون آثارها، بل تُعيد إحياء روحها فى قالب معاصر يُلهم الأجيال ويُعيد تعريف الحضارة من منظور مصرى أصيل.
إنه بحق رؤية جديدة للحضارة فى زمن الحداثة، ورسالة مصرية إلى الإنسانية مفادها أن أرض النيل ما زالت قادرة على أن تُبدع، وأن تُضىء العالم بنورها الذى لا ينطفئ منذ فجر التاريخ.















0 تعليق