الأحد 19/أكتوبر/2025 - 11:47 م 10/19/2025 11:47:10 PM
في المقالين السابقين توقفنا عند مفترقٍ دقيقٍ بين العلم والقدر، بين يد الطبيب التي تُمسك بخيط الحياة وحدود الخالق التي لا يتم تجاوزها، تحدثنا عن تلك المسافة الحرجة التي يقف عندها الطب، لا كصانعٍ للمصير، بل كشاهِدٍ على أسراره، واليوم نصل إلى السؤال الأعمق والأكثر حساسية في هذه السلسلة: من يملك حق النهاية؟ وهل يجوز للطب أن يجعل من موت إنسانٍ حياةً لغيره؟
في البداية يجب أن نحدد من يٌعَّرِّف الموت؟
إننا أمام قضيةٍ لا يمكن الخوض فيها دون وضع تعريفٍ دقيقٍ للموت، تعريف يلتقي فيه العلم بالشريعة، لا يصطدم أحدهما بالآخر، بل يكمّلان بعضهما في خدمة الحقيقة الكبرى: كرامة الإنسان حيًّا وميتًا.
لقد أوضحنا في الحديث السابق، بالأدلة العلمية الثابتة، أن القلب هو المؤشر الحقيقي للحياة والموت، وأن توقفه الكامل والدائم هو العلامة التي تُعلن انطفاء الروح، لا توقف الدماغ وحده كما تذهب إليه بعض الاتجاهات الطبية الحديثة، فكم من حالة أُعلنت فيها الوفاة الدماغية، ثم عاد المريض للحياة بعد أيام أو أسابيع أو شهور طويلة، لتؤكد لنا أن العلم لم يملك بعدُ مفاتيح الغيب، وأن نصف في المائة من الأمل كافٍ لأن نمتنع عن إعلان النهاية.
من هنا تنبع أخلاقيات التعامل مع موت الدماغ، إذ لا يجوز إنهاء حياةٍ يُحتمل - ولو بأدنى نسبة - أن تعود إليها الوظائف الطبيعية، حتى وإن بدا صاحبها في غيبوبة عميقة أو موت دماغي مطوّل، فالحياة - كما علمنا الطب والدين معًا - ليست ظاهرة كهربائية، بل سرٌّ لا يُقاس بمؤشرات الأجهزة وحدها.
ثم تأتي أدبيات وأخلاقيات نقل الأعضاء لتشكل فارقًا هاما في القضية، وحين يتحقق الموت الكامل، وتُثبت اللجان الطبية المتخصصة ذلك بتوقف القلب والمخ والتنفس جميعًا، يصبح التبرع بالأعضاء فعلًا إنسانيًا راقيًا، لا عدوانًا على الجسد بل استمرارًا لرسالته.
إن أخلاقيات الطب في هذا الباب تقوم على ثلاثة أعمدة، الأول، قدسية الحياة الإنسانية، فلا تُؤخذ الأعضاء إلا لإنقاذ حياةٍ مؤكدة، وبعلمٍ ويقينٍ أن المتبرع قد فارق الحياة فعلًا، والثاني، منع الاتجار والاستغلال: فالتبرع لا يكون بيعًا ولا استثمارًا، بل صدقةً خالصة، والثالث، العدالة في التوزيع: إذ لا تُمنح الأعضاء لمن يملك المال أو النفوذ، بل لمن تقتضي حالته الطبية الأولوية، كما هو معمول به في النظم الطبية الحديثة.
لكنّ الحقيقة المؤلمة أن هذه المبادئ، رغم وضوحها، لا تزال تواجه في مجتمعاتنا رفضًا شعوريًا عميقًا، سببه قدسية الجسد في الوجدان المصري، الممزوجة بمقولة "إكرام الميت دفنه"، ففي نظر كثيرين، المساس بجسد المتوفى نوعٌ من الانتهاك، حتى وإن كان في سبيل إنقاذ آخرين.
وهنا تتجلى الحاجة إلى نقلة ثقافية وفكرية تُعيد تعريف الإكرام بمعناه الإنساني الرحب، فإكرام الميت لا يكون بدفنه فحسب، بل في أن يهب - بموته - حياةً لغيره، فيكون موته امتدادًا لحياته، وبدنه شاهدًا على أن الخير لا يموت.
ومن ناحية الموقف الشرعي والقانوني، لقد حسمت الشريعة الإسلامية الموقف بوضوح؛ فأجازت نقل الأعضاء بشروطٍ صارمة، أبرزها تحقق الموت يقينًا، وخلو العملية من أي منفعة مالية.
وأوضحت دار الإفتاء المصرية أن جواز نقل الأعضاء بعد الوفاة مشروطٌ بثلاثة أمور: أن يتحقق الموت الكامل بتوقف التنفس ووظائف القلب والمخ نهائيًا، وأن يقرر ذلك أطباء متخصصون مشهود لهم بالأمانة والكفاءة، وأن يكون التبرع لوجه الله لا لغرضٍ مادي.
وفي المقابل، حذّرت من سلبيات التبرع إذا لم تضبطه الضوابط الأخلاقية، مثل صعوبة التوافق النسيجي والزمرة الدموية بين المتبرع والمتلقي، وما قد يترتب على العمليات من مضاعفاتٍ جسيمة، فضلًا عن احتمالات الاتجار التي تُسقط الفعل النبيل في مستنقع الاستغلال.
أما من الناحية القانونية، فقد نص القانون رقم ٥ لسنة ٢٠١٠ على تنظيم عمليات نقل وزراعة الأعضاء البشرية، وأجازها من خلال التبرع، مع تأكيده على منع أي شكلٍ من أشكال البيع أو المقايضة أو الإجبار، ليُغلق الباب أمام كل تجاوزٍ للكرامة الإنسانية.
ويُذكر أن فضيلة الإمام الأكبر الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوي - شيخ الأزهر السابق - كان من أبرز الداعمين لهذا التوجه، إذ كتب وصيةً بالتبرع بأعضائه بعد وفاته، وعدّ ذلك صدقةً جاريةً تستمر في نفع الناس بعد الرحيل، كما أعلنت الكنيسة المصرية موقفًا متطابقًا في الجوهر، معتبرةً أن التبرع بالأعضاء "أسمى أشكال العطاء والمحبة"، ما دامت العملية تتم بإرادة حرة ولوجه الخير.
ثم أن الطائفة الإنجيلية أيضا، أتاحت بمشروعية نقل الأعضاء من شخص متوفى من أجل تحسين حياة الآخرين مع الالتزام بالقوانين والأحكام، وضرورة أن يكون المتوفى قد أوصى بذلك قبل وفاته، بالإضافة إلى أخذ موافقة أقاربه.
وإذا راجعنا الموقف بين العلم والضمير، فلا شك أن نقل الأعضاء أحد أعظم إنجازات الطب الحديث، لكنه أيضًا امتحانٌ للضمير الإنساني؛ فالتقنيات التي مكنت الإنسان من نقل قلبٍ نابض أو كليةٍ عاملة، لا تُغني عن أهمية إنسانية القرار وتقديس الحياة.
إن الطب يستطيع أن ينقل العضو، لكنه لا يملك أن يقرر متى تنتهي الروح، وإن القانون يستطيع أن ينظم، لكن الوعي هو الذي ينهض بالمجتمع نحو ثقافة التبرع.
إن قناعتي العلمية والدينية والأخلاقية أن القلب - لا الدماغ - هو وِحدَّة الحياة الأولى والأخيرة، هو مركز الوجود الإنساني الذي لا يُستبدل بمعادلاتٍ كهربائية أو صورٍ مقطعية، فحين يتبنى البعض مفهوم "الموت الدماغي" بوصفه نهايةً للحياة، فإنهم يفتحون الباب لتجاوزٍ خطيرٍ يُنهي حياة إنسانٍ لا يزال قلبه ينبض، بحجة خدمة العلم أو إنقاذ غيره.
إن العلم الذي يتخطى حدود الروح، يفقد قدسيته ويتحول إلى سلطةٍ فوق الدين والضمير، ولا يجوز أن يصبح البحث العلمي مبررًا لانتهاك مقاصد الشرائع الدينية أو العبث بحق الله في تحديد لحظة النهاية، فـالموت ليس حدثًا بيولوجيًا فحسب، بل قرارٌ إلهيٌّ لا يملكه بشر، ولا يجوز للطب أن يجعل من افتراضاته طريقًا لإزهاق روحٍ لم يُغادرها اليقين بعد.
أعتقد أن الأهم الآن هواننا بحاجةٍ إلى أن نُدرّس في مدارسنا وجامعاتنا معنى التبرع بالأعضاء، بوصفه فعلَ تضامنٍ إنساني، لا قضيةً طبية فحسب.
ومن وجهة نظري أن القضية الأهم والتي يجب الاهتمام بها هي خلق وعيٍ جديد بالحياة والموت، ربما آن الأوان لأن نتحرر من خوفنا من الموت، وأن نراه امتدادًا للحياة في جسدٍ آخر، فالتبرع بالأعضاء ليس اعتداءً على الجسد، بل أرقى أشكال الإيمان بأن الخير لا يموت، ولعل اللحظة التي تُغلق فيها عينُ إنسانٍ إلى الأبد، يمكن أن تفتح عيونًا أخرى على النور.
إن قضية التبرع بالأعضاء ليست قضية فقهية أو طبية فحسب، بل هي قضية وعيٍ وضميرٍ وثقافة مجتمع، حين يدرك الإنسان أن موته يمكن أن يكون حياةً لغيره، يتحول الموت من نهايةٍ إلى رسالة، وحين يتكامل العلم مع الشريعة في تحديد الموت وتعظيم الحياة، تتحقق إنسانيتنا في أبهى صورها.
فلنجعل من النهاية بدايةً جديدةً للآخرين، ولنتذكر أن القلب الذي توقف عن النبض، قد يظل يخفق في صدر إنسانٍ آخر... يشهد أن الرحمة باقية ما بقي الإنسان.
0 تعليق