العلاج تحت التأسيس.. كيف فتح قانون 51 الباب الخلفي للفوضى؟
في عام 2023، لم يكن هروب عدد من المرضى من مركز علاج إدمان بمنطقة ترعة المريوطية مجرد واقعة عابرة، بل كان جرس إنذار كشف واقع مظلم تعمل فيه عشرات المراكز غير المرخّصة، بعيدًا عن أعين الرقابة، وبلا سند قانوني أو إنساني.
الواقعة بدأت ببلاغ غير رسمي من أهالي المنطقة، تحدثوا فيه عن حالة وفاة غرقًا لأحد المرضى أثناء محاولته الهروب من المركز، وعن فرار آخرين، من بينهم شقيق فنان معروف. تفاصيل خطيرة مرّت دون بيان رسمي، ودون أن يعرف أحد مصير الهاربين أو المسؤول عنهم.
البحث عن المركز.. بلا نتيجة
محاولات التحقق قادت إلى مفارقة صادمة.
عند سؤال مسؤول صحي عن وجود المركز أو موقفه القانوني، كانت الإجابة: لا نعلم بوجوده من الأساس.
أما قسم الشرطة المختص، فلم يكن يملك أي بيانات عن أسماء النزلاء أو القائمين على المكان، رغم أن هذه المراكز تستقبل أشخاصًا قد يكون بينهم مطلوبون أمنيًا أو أصحاب سوابق.
لم تكن هناك لافتة رسمية، ولا أوراق ترخيص معلنة، ولا أي دليل يشير إلى أن المكان منشأة طبية من الأساس.
حملة ثم اختفاء
بعد بلاغات متكررة، تحركت حملة من إدارة العلاج الحر استهدفت العقار المستخدم كمركز.
لكن المفاجأة أن القائمين عليه اختفوا تمامًا قبل وصول الحملة، وأُغلق المكان في ظلام دامس، وكأن النشاط لم يكن موجودًا يومًا.
أقوال الأهالي انقسمت بين من يؤكد أن المكان كان مركز علاج، ومن ينفي معرفته بأي نشاط من هذا النوع، في مشهد يعكس كيف تعمل هذه المراكز في مناطق هامشية، بعيدًا عن أي مساءلة مجتمعية.
عودة النشاط سرًا
لم يكن الإغلاق نهاية القصة.
بعد أسابيع، بدأت معلومات تتردد عن عودة النشاط بشكل غير معلن. سيارات تأتي ليلًا، أشخاص يدخلون ويخرجون في توقيتات محددة، وعمارة تُغلق أبوابها بإحكام بعد الخامسة مساءً.
مصادر مطلعة كشفت أن الإدارة نفسها عادت للعمل، وأن نزلاء جدد التحقوا بالمكان، دون أي تغيير في الوضع القانوني أو الرقابي.
مربع معلومات | إنفوجراف
مراكز علاج الإدمان غير المرخّصة في مصر – مؤشرات خطرة:
أماكن النشاط: أطراف المدن – طرق زراعية – مناطق صحراوية
الوضع القانوني: تعمل تحت بند “مركز تحت التأسيس” دون ترخيص فعلي
الإدارة: غير أطباء أو أطباء بالأسماء فقط
أساليب شائعة: تقييد المرضى – غلق الأبواب – كاميرات مراقبة داخلية
الكثافة: حتى 20 نزيلًا في غرفة واحدة
الرقابة: غياب قاعدة بيانات رسمية للنزلاء
النتيجة: هروب مرضى دون متابعة… وانتكاسة شبه مؤكدة
ملحوظة: هذه المؤشرات مستخلصة من وقائع ميدانية وشهادات متكررة، وليست حصرًا رسميًا.
الهروب ليس النهاية
السؤال الأخطر لم يكن: لماذا هرب المرضى؟
بل: من كان مسؤولًا عنهم بعد الهروب؟
لا وزارة الصحة تعاملت معهم كمرضى يحتاجون متابعة عاجلة، ولا الأجهزة الأمنية امتلكت بيانات تُمكّنها من تتبعهم أو حمايتهم. خرجوا إلى الشارع بلا علاج، وبلا بديل، وبلا شبكة أمان.
في واقع كهذا، يتحول الهروب من مركز غير مرخّص إلى بداية مأساة جديدة، غالبًا ما تنتهي بالعودة إلى التعاطي، أو الوقوع في دائرة استغلال أخرى.
العلاج تحت التأسيس.. كيف فتح قانون 51 الباب الخلفي للفوضى؟
لم تعد المراكز غير المرخّصة لعلاج الإدمان تعمل في الخفاء فقط، بل باتت تستند إلى غطاء قانوني هش يُعرف باسم: «مركز تحت التأسيس». هذه الصيغة، التي يفترض أنها مرحلة انتقالية قبل الترخيص، تحوّلت فعليًا إلى تصريح مفتوح لممارسة نشاط طبي شديد الخطورة دون رقابة حقيقية.
ما هو قانون 51؟
قانون الصحة النفسية رقم 51 وُضع في الأساس لحماية المريض النفسي، وضمان حقوقه، وتنظيم عملية العلاج داخل منشآت مرخّصة وتحت إشراف الدولة.
لكن التطبيق العملي كشف ثغرة خطيرة استغلها سماسرة العلاج:
الاكتفاء بتقديم ورقة باسم طبيب دون وجود فعلي له داخل المركز
السماح ببدء النشاط قبل استكمال إجراءات الترخيص
غياب مدة زمنية محددة تُلزم المركز بتوفيق أوضاعه
هكذا تحوّل «التأسيس» إلى وضع دائم، بلا بداية حقيقية ولا نهاية.
طبيب على الورق فقط
في عدد كبير من هذه المراكز:
الطبيب لا يحضر إلا نادرًا أو لا يحضر مطلقًا
الإدارة الفعلية بيد مدمنين سابقين أو سماسرة
التعاقد يتم مقابل مبلغ شهري نظير استخدام الاسم فقط
المشهد لا يختلف كثيرًا عن شخص غير مؤهل يقف خلف منضدة صيدلية لأنه اشترى اسم الصيدلي.
رقابة شكلية.. وعقوبات بلا ردع
حين تتحرك حملات العلاج الحر، تصطدم بواقع معقّد:
إغلاق مؤقت يعقبه فتح باسم جديد
نقل النشاط من شقة إلى أخرى
غياب سجل مركزي يربط المخالفات بالكيان نفسه
النتيجة أن المركز يُغلق إداريًا… لكنه يستمر فعليًا.
مربع معلومات | إنفوجراف
كيف تستغل المراكز ثغرة «تحت التأسيس»؟
تقديم اسم طبيب دون وجوده
استقبال المرضى قبل الترخيص
تغيير الاسم التجاري بعد كل حملة
نقل النشاط من مكان لآخر
غياب المحاسبة الجنائية.
تصريح قانوني تحليلي
خبير قانوني في التشريعات الصحية يؤكد أن السماح بمزاولة النشاط الطبي قبل اكتمال الترخيص «يفرغ فكرة الترخيص من مضمونها»، موضحًا أن قانون 51 لا يحدد عقوبة رادعة لبدء التشغيل المخالف، ولا يُلزم بوقف النشاط فورًا.
ويضيف:
«أي ممارسة علاجية دون ترخيص مكتمل يجب أن تُعامل كجريمة لا كمخالفة إدارية، خاصة عندما تتضمن احتجاز أشخاص أو التدخل في حالتهم النفسية والجسدية».
المريض.. الحلقة الأضعف
في هذا الفراغ التشريعي:
لا عقد علاجي واضح
لا حق فعلي في الشكوى
لا جهة تتحمل المسؤولية عند الانتهاك
وحين يهرب المريض أو يتعرض للأذى، تضيع المسؤولية بين مركز غير مرخص وقانون غير مُفعّل.
الحلقة الثالثة: داخل الغرف المغلقة.. تقييد المرضى وكاميرات بلا علاج.
خلف أبواب مغلقة وغرف مظلمة، يواجه المرضى تجربة أشبه بالسجن، مع كاميرات مراقبة، وإدارة بيد غير مختصين.
العلاج كما يُمارس
احتجاز قسري لأيام أو أسابيع
منع الاتصال بالأهل
حرمان من الحركة
إدارة غير متخصصة
التقييد والمراقبة
ربط المرضى في الأسرة أو تقييد الأطراف
كاميرات في الممرات وغرف الإقامة
مربع معلومات | إنفوجراف
تقييد المرضى دون سند طبي
احتجاز قسري ومنع الزيارة
غياب ملفات طبية
إدارة غير متخصه كاميرات بلا ضوابط
الهروب خيار وحيد
الهروب يصبح وسيلة النجاة، لكن غالبًا ما يعود المريض لتعاطي المخدرات لاحقًا.
الحلقة الرابعة: الميثادون المفقود.. من برنامج علاجي دولي إلى سوق سوداء
برنامج الميثادون، بدعم من الأمم المتحدة، أوقف فجأة بعد انتهاء المنحة، تاركًا المرضى يواجهون أعراض انسحاب حادة، بينما أصبح الدواء متاحًا في السوق السوداء.
النتائج
توقف البرنامج الحكومي فجأة
مرضى يواجهون انسحابًا شديدًا
دواء يُباع في السوق السوداء
مراكز غير مرخّصة تستغل الحاجة
فقدان الثقة في منظومة العلاج الرسمية
مربع معلومات |
توقف البرنامج الحكومي فجأة
مرضى يواجهون أعراض انسحاب حادة
دواء يُباع في السوق السوداء
مراكز غير مرخّصة تستغل الحاجة
فقدان الثقة في منظومة العلاج الرسمية
بعد الهروب.. من يحمي المريض؟
الهروب أصبح جزءًا من المنظومة الفاشلة. المرضى يخرجون بلا سرير حكومي، بلا متابعة، بلا بديل، وغالبًا ما يعودون للتعاطي.
رقابة الدولة
لا سجل مركزي للنزلاء
لا توجد خطة طوارئ لاستقبال الهاربين
العقوبات على المراكز ضعيفة
حجم المشكلة
80% من المراكز غير المرخصة تمارس تقييد المرضى داخل الغرف.
20 نزيلًا كحد أقصى في غرفة واحدة في بعض المراكز، دون مرافق طبي.
أكثر من 300 شكوى رسمية أرسلت لقسم خاص بالأمم المتحدة بسبب توقف برنامج الميثادون.
نحو 50% من المرضى الهاربين يعودون لتعاطي المخدرات خلال أسابيع بسبب غياب متابعة.
أقل من 10% من المراكز غير المرخصة يتم إغلاقها فعليًا عند ضبط المخالفات، بينما تعود للعمل تحت أسماء جديدة.
مربع معلومات
عدم توفر سرير فوري
العودة السريعة لتعاطي المخدرات
غياب متابعة طبية
اعتماد الأسر على مراكز خاصة
استمرار الفراغ القانوني
وقال محمود فؤاد، رئيس مركز الحق في الدواء، إنه تواصل مع إدارة العلاج الحر، والتي أكدت له بشكل قاطع أن العيب ليس في القانون، مشددة على أن القانون صارم وقوي فيما يخص تنظيم ومراقبة مراكز علاج الإدمان.
وأضاف أن الخلل الحقيقي يكمن في من تلطخت أيديهم بفساد واضح وصريح بمحافظة القليوبية، موضحًا أن بعض هؤلاء كانوا مصاحبين ومدعومين لمراكز إدمان غير مرخصة. وتابع: "عندما تقدمت بشكاوى موثقة عن هذا الفساد في القليوبية، جاء الرد الصادم من بعض الجهات بالمحافظة: (مش عايزينه هنا)، ليتم نقله وترقيته وتمكينه من الإشراف على محافظة الجيزة بأكملها".
وشدد فؤاد على أن القانون يحظر بشكل قاطع فتح أي مركز لعلاج الإدمان أو استقبال مريض دون الحصول على جميع التراخيص اللازمة من كافة الجهات المختصة، وعلى رأسها إدارة العلاج الحر.
كما أكد أن الأمانة العامة للصحة النفسية يجب أن تكون على علم بكافة النزلاء داخل أي مركز، وأن يتم تسجيلهم رسميًا على المنظومة القومية لعلاج الإدمان، وهي منظومة مربوطة إلكترونيًا بوزارة الداخلية، بما يضمن الرقابة الكاملة وحماية المرضى ومنع أي تجاوزات أو جرائم تحت ستار العلاج
هذه المراكز ليست مجرد أماكن علاج، بل مراكز استغلال وانتهاك للكرامة الإنسانية.
الهروب أصبح وسيلة نجاة، والدواء تحوّل إلى سلعة، والقانون عاجز عن حماية المرضى.
المرضى ليسوا أرقامًا، بل بشر يُتركون في مواجهة الألم والوحدة، فيما تتحرك إدارة المركز بحرية، والقوانين تتغاضى عن الفوضى.
التحقيق هذا ليس نهاية القصة، بل بداية صرخة تحذيرية لكل صانع قرار، لكل جهة رقابية، ولكل مجتمع يظن أن علاج الإدمان مجرد بروتوكول طبي عابر.
الحل يبدأ بإصلاح التشريع، تفعيل الرقابة، إنشاء برامج علاجية حقيقية، واستعادة كرامة المريض التي دُمرت داخل الغرف المغلقة.
حتى ذلك الحين، تبقى المراكز غير المرخّصة ساحات للانتهاك والفوضى، والمرضى هم الحلقة الأضعف.

















0 تعليق